السبت، 3 يونيو 2023

من سورة الممتحنة

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٤_٦
من سورة الممتحنة 
﴿قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةࣱ فِیۤ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ وَٱلَّذِینَ مَعَهُۥۤ إِذۡ قَالُوا۟ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَ ٰۤ⁠ ؤُا۟ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَیۡنَنَا وَبَیۡنَكُمُ ٱلۡعَدَ ٰ⁠وَةُ وَٱلۡبَغۡضَاۤءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥۤ إِلَّا قَوۡلَ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ لِأَبِیهِ لَأَسۡتَغۡفِرَنَّ لَكَ وَمَاۤ أَمۡلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَیۡءࣲۖ رَّبَّنَا عَلَیۡكَ تَوَكَّلۡنَا وَإِلَیۡكَ أَنَبۡنَا وَإِلَیۡكَ ٱلۡمَصِیرُ (٤) رَبَّنَا لَا تَجۡعَلۡنَا فِتۡنَةࣰ لِّلَّذِینَ كَفَرُوا۟ وَٱغۡفِرۡ لَنَا رَبَّنَاۤۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ (٥) لَقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِیهِمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةࣱ لِّمَن كَانَ یَرۡجُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلۡیَوۡمَ ٱلۡـَٔاخِرَۚ وَمَن یَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَنِیُّ ٱلۡحَمِیدُ (٦)﴾ [الممتحنة ٤-٦]

يَقُولُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ بِمُصَارَمَةِ الْكَافِرِينَ وَعَدَاوَتِهِمْ وَمُجَانَبَتِهِمْ وَالتَّبَرِّي مِنْهُمْ: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ أَيْ: وَأَتْبَاعُهُ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ﴿إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ﴾ أَيْ: تَبَرَّأْنَا مِنْكُمْ ﴿وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ﴾ أَيْ: بِدِينِكُمْ وَطَرِيقِكُمْ، ﴿وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا﴾ يَعْنِي: وَقَدْ شُرعت الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ مِنَ الْآنِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، مَا دُمْتُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ فَنَحْنُ أَبَدًا نَتَبَرَّأُ مِنْكُمْ وَنُبْغِضُكُمْ ﴿حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ أَيْ: إِلَى أَنْ تُوحدوا اللَّهَ فَتَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَتَخْلَعُوا مَا تَعْبُدُونَ مَعَهُ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْأَوْثَانِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ أَيْ: لَكُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ تَتَأَسَّوْنَ بِهَا، إِلَّا فِي اسْتِغْفَارِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ عَنْ مَوعِدة وَعَدَهَا إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ. وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَدعون لِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الشِّرْكِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُمْ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَسْتَغْفِرُ لِأَبِيهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التَّوْبَةِ: ١١٣، ١١٤] . وَقَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ أَيْ: لَيْسَ لَكُمْ فِي ذَلِكَ أُسْوَةٌ، أَيْ: فِي الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ، هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَمُقَاتِلٌ، وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ، حِينَ فَارَقُوا قَوْمَهُمْ وَتَبَرَّءُوا مِنْهُمْ، فَلَجَئُوا إِلَى اللَّهِ وَتَضَرَّعُوا(١) إِلَيْهِ فَقَالُوا: ﴿رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ أَيْ: تَوَكَّلْنَا عَلَيْكَ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وسَلَّمنا أمورَنا إِلَيْكَ، وَفَوَّضْنَاهَا إِلَيْكَ ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ أَيِ: الْمَعَادُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ: لَا تُعَذِّبْنَا بِأَيْدِيهِمْ، وَلَا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِكَ، فَيَقُولُوا: لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ عَلَى حَقٍّ مَا أَصَابَهُمْ هَذَا. وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ.وَقَالَ قَتَادَةُ لَا تُظْهِرهم عَلَيْنَا فَيَفْتَتِنُوا بِذَلِكَ، يَرَوْنَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا ظَهَرُوا عَلَيْنَا لِحَقٍّ هُمْ عَلَيْهِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ(٢) .وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تُسَلِّطْهُمْ عَلَيْنَا فَيَفْتِنُونَا.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ أَيْ: وَاسْتُرْ ذُنُوبَنَا عَنْ غَيْرِكَ، وَاعْفُ عَنْهَا فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ أَيِ: الَّذِي لَا يُضَام مَنْ لَاذَ بِجَنَاحِكَ(٣) ﴿الْحَكِيم﴾ فِي أَقْوَالِكَ وَأَفْعَالِكَ وَشَرْعِكَ وَقَدَرِكَ.ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ﴾ وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ وَمُسْتَثْنًى مِنْهُ مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا لِأَنَّ هذه الأسوة المثبتة(٤) هاهنا هِيَ الْأُولَى بِعَيْنِهَا.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ﴾ تَهْيِيجٌ إِلَى ذَلِكَ كُلَّ مُقِرٍّ(٥) بِاللَّهِ وَالْمَعَادِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ﴾ أَيْ: عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ كَقَوْلِهِ ﴿إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ٨] .وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿الْغَنِيُّ﴾ الَّذِي [قَدْ](٦) كَمُلَ فِي غِنَاهُ، وَهُوَ اللَّهُ، هَذِهِ صِفَتُهُ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لَهُ، لَيْسَ لَهُ كُفْءٌ، وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. ﴿الْحَمِيدُ﴾ الْمُسْتَحْمَدُ إِلَى خَلْقِهِ، أَيْ: هُوَ الْمَحْمُودُ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَلَا رَبَّ سواه.

(١) في م: "وضرعوا".
(٢) تفسير الطبري (٢٨/٤٢) .
(٣) في أ: "بجنابك".
(٤) في أ: "المبيتة".
(٥) في م: "لكل موقن".
(٦) زيادة من م.

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

ليست هناك تعليقات: