الأحد، 29 يناير 2023

من سورة الروم

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٤٨_٥١ 
من سورة الروم 
﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِی یُرۡسِلُ ٱلرِّیَـٰحَ فَتُثِیرُ سَحَابࣰا فَیَبۡسُطُهُۥ فِی ٱلسَّمَاۤءِ كَیۡفَ یَشَاۤءُ وَیَجۡعَلُهُۥ كِسَفࣰا فَتَرَى ٱلۡوَدۡقَ یَخۡرُجُ مِنۡ خِلَـٰلِهِۦۖ فَإِذَاۤ أَصَابَ بِهِۦ مَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۤ إِذَا هُمۡ یَسۡتَبۡشِرُونَ (٤٨) وَإِن كَانُوا۟ مِن قَبۡلِ أَن یُنَزَّلَ عَلَیۡهِم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمُبۡلِسِینَ (٤٩) فَٱنظُرۡ إِلَىٰۤ ءَاثَـٰرِ رَحۡمَتِ ٱللَّهِ كَیۡفَ یُحۡیِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۤۚ إِنَّ ذَ ٰ⁠لِكَ لَمُحۡیِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ (٥٠) وَلَىِٕنۡ أَرۡسَلۡنَا رِیحࣰا فَرَأَوۡهُ مُصۡفَرࣰّا لَّظَلُّوا۟ مِنۢ بَعۡدِهِۦ یَكۡفُرُونَ (٥١)﴾ [الروم ٤٨-٥١]

يُبَيِّنُ تَعَالَى كَيْفَ يَخْلُقُ السَّحَابَ الَّتِي(١) يَنْزِلُ مِنْهَا الْمَاءُ(٢) فَقَالَ: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا﴾ ، إِمَّا مِنَ الْبَحْرِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، أَوْ مِمَّا يَشَاءُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. ﴿فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ أَيْ: يَمُدّه فيكثّرهُ ويُنَمّيه، وَيَجْعَلُ مِنَ الْقَلِيلِ كَثِيرًا، يُنْشِئُ سَحَابَةً فَتُرَى فِي رَأْيِ الْعَيْنِ مِثْلَ التُّرْسِ، ثُمَّ يَبْسُطُهَا حَتَّى تَمْلَأَ أَرْجَاءَ الْأُفُقِ. وَتَارَةً يَأْتِي السَّحَابُ مِنْ نَحْوِ الْبَحْرِ ثِقَالًا مَمْلُوءَةً مَاءً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ٥٧] ، وَكَذَلِكَ قَالَ هَاهُنَا: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا﴾ . قَالَ مُجَاهِدٌ، وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَمَطَرٌ الوَرّاق، وَقَتَادَةُ: يَعْنِي قِطَعًا.وَقَالَ غَيْرُهُ: مُتَرَاكِمًا، قَالَهُ الضَّحَّاكُ.وَقَالَ غَيْرُهُ: أَسْوَدَ مِنْ كَثْرَةِ الْمَاءِ، تَرَاهُ مُدْلَهِمًّا ثَقِيلًا قَرِيبًا مِنَ الْأَرْضِ.
* * *وَقَوْلُهُ ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ﴾ أَيْ: فَتَرَى الْمَطَرَ -وَهُوَ الْقَطْرُ -يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ السَّحَابِ، ﴿فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ أَيْ: لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ يَفْرَحُونَ بِنُزُولِهِ عَلَيْهِمْ وَوُصُولِهِ إِلَيْهِمْ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ﴾ ، مَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ أَصَابَهُمْ هَذَا الْمَطَرُ كَانُوا قَنطين أَزِلِينَ مِنْ نُزُولِ الْمَطَرِ إِلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ، جَاءَهُمْ عَلَى فَاقَةٍ، فَوَقَعَ مِنْهُمْ مَوْقِعًا عَظِيمًا.وقد اختلف النحاة في قوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ﴾ ، فقال ابن جرير: هو تَأْكِيدٌ. وَحَكَاهُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ.وَقَالَ آخَرُونَ: [وَإِنْ كَانُوا](٣) مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرُ، ﴿مِنْ قَبْلِهِ﴾ أَيِ: الْإِنْزَالِ ﴿لَمُبْلِسِينَ﴾ .وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةِ التَّأْسِيسِ، وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّهُمْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ قَبِلَ نُزُولِهِ، وَمِنْ قَبْلِهِ -أَيْضًا -قَدْ فَاتَ عِنْدَهُمْ نُزُولُهُ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ، فَتَرَقَّبُوهُ فِي إِبَّانِهِ فَتَأَخَّرَ، فَمَضَتْ مُدَّةٌ فَتَرَقَّبُوهُ فَتَأَخَّرَ، ثُمَّ جَاءَهُمْ بَغْتَةً بَعْدَ الْإِيَاسِ مِنْهُ وَالْقُنُوطِ، فَبَعْدَ مَا كَانَتْ أَرْضُهُمْ مُقَشْعَرَةً هَامِدَةً أَصْبَحَتْ وَقَدِ اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ يَعْنِي: الْمَطَرَ ﴿كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ .ثُمَّ نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَجْسَادِ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَفَرُّقِهَا وَتَمَزُّقِهَا، فَقَالَ: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى﴾ أَيْ: إِنَّ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ لَقَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ، ﴿إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ .ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ﴾ ، يَقُولُ ﴿وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا﴾ يَابِسَةً عَلَى الزَّرْعِ الَّذِي زَرَعُوهُ، وَنَبَتَ وَشَبَّ وَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ، فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا، أَيْ: قَدِ اصْفَرَّ وَشَرَعَ فِي الْفَسَادِ، لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ، أَيْ: بَعْدَ هَذَا الْحَالِ يَكْفُرُونَ، أَيْ: يَجْحَدُونَ مَا تَقَدَّمَ [إِلَيْهِمْ](٤) مِنَ النِّعَمِ، كَمَا قَالَ: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ. لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ. إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ [الْوَاقِعَةِ: ٦٣ -٦٧] .قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا محمد بن عيسى بن الطباع، حَدَّثَنَا هُشَيْم(٥) ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنِ أَبِيهِ(٦) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: الرِّيَاحُ ثَمَانِيَةٌ، أَرْبَعَةٌ مِنْهَا رَحْمَةٌ، وَأَرْبَعَةٌ عَذَابٌ، فَأَمَّا الرَّحْمَةُ فَالنَّاشِرَاتُ وَالْمُبَشِّرَاتُ وَالْمُرْسَلَاتُ وَالذَّارِيَاتُ. وَأَمَّا الْعَذَابُ فَالْعَقِيمُ وَالصَّرْصَرُ، وَهُمَا فِي الْبَرِّ، وَالْعَاصِفُ وَالْقَاصِفُ، وَهُمَا فِي الْبَحْرِ [فَإِذَا شَاءَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَرَّكَهُ بِحَرَكَةِ الرَّحْمَةِ فَجَعَلَهُ رَخَاءً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رحْمته، وَلَاقِحًا لِلسَّحَابِ تُلَقِّحُهُ بِحَمْلِهِ الْمَاءَ، كَمَا يُلَقِّحُ الذَّكَرُ الْأُنْثَى بِالْحَمْلِ، وَإِنْ شَاءَ حَرَّكَهُ بِحَرَكَةِ الْعَذَابِ فَجَعَلَهُ عَقِيمًا، وَأَوْدَعَهُ عَذَابًا أَلِيمًا، وَجَعْلَهُ نِقْمَةً عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فَيَجْعَلُهُ صَرْصَرًا وَعَاتِيًا وَمُفْسِدًا لِمَا يَمُرُّ عَلَيْهِ، وَالرِّيَاحُ مُخْتَلِفَةٌ فِي مَهَابِّهَا: صَبًا وَدَبُورٌ، وَجَنُوبٌ، وَشِمَالٌ، وَفِي مَنْفَعَتِهَا وَتَأْثِيرِهَا أَعْظَمَ اخْتِلَافِ، فَرِيحٌ لَيِّنَةٌ رَطْبَةٌ تُغَذِّي النَّبَاتَ وَأَبْدَانَ الْحَيَوَانِ، وَأُخْرَى تُجَفِّفُهُ، وَأُخْرَى تُهْلِكُهُ وَتُعْطِبُهُ، وَأُخْرَى تُسَيِّرُهُ وَتَصْلُبُهُ، وَأُخْرَى تُوهِنُهُ وَتُضْعِفُهُ](٧) .وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو(٨) عبُيَد اللَّهِ ابْنِ أَخِي ابْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَمِّي، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيْاش(٩) ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ هِلَالٍ الصدَفي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "الرِّيحُ مُسَخَّرَةٌ مِنَ الثَّانِيَةِ -يَعْنِي الْأَرْضَ الثانية -فلما أراد الله أن يهلك عادا، أَمَرَ خَازِنَ الرِّيحِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْهِمْ رِيحًا تُهْلِكُ عَادًا، فَقَالَ: يَا رَبِّ، أُرْسِلُ عَلَيْهِمْ من الريح قدر منخر الثور. قال له الْجَبَّارُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: لَا إِذًا تَكْفَأُ الْأَرْضَ وما عليها، وَلَكِنْ أَرْسِلْ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ خَاتَمٍ"، فَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: ﴿مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ﴾(١٠) [الذَّرِايَاتِ: ٤٢] . هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَرَفْعُهُ مُنْكَرٌ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

(١) في أ: "الذي".
(٢) في ت: "المطر".
(٣) زيادة من أ.
(٤) زيادة من أ.
(٥) في أ: "هاشم".
(٦) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
(٧) زيادة من ت.
(٨) في أ: "ابن".
(٩) في أ: "عباس".
(١٠) سيأتي تخريج الحديث عند تفسير الآية: ٤٢ من سورة الذاريات.

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الجمعة، 27 يناير 2023

من سورة الأنعام

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٠٤_١٠٥
من سورة الأنعام 
﴿قَدۡ جَاۤءَكُم بَصَاۤىِٕرُ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنۡ أَبۡصَرَ فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ عَمِیَ فَعَلَیۡهَاۚ وَمَاۤ أَنَا۠ عَلَیۡكُم بِحَفِیظࣲ (١٠٤) وَكَذَ ٰ⁠لِكَ نُصَرِّفُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ وَلِیَقُولُوا۟ دَرَسۡتَ وَلِنُبَیِّنَهُۥ لِقَوۡمࣲ یَعۡلَمُونَ (١٠٥)﴾ [الأنعام ١٠٤-١٠٥]

الْبَصَائِرُ: هِيَ الْبَيِّنَاتُ وَالْحُجَجُ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، وَمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ ﴿فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ﴾ مِثْلَ قَوْلِهِ: ﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ١٥] ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا﴾ لَمَّا ذَكَرَ الْبَصَائِرَ قَالَ:﴿وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا﴾ أَيْ: فَإِنَّمَا يَعُودُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الْحَجِّ: ٤٦] .﴿وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ أَيْ: بِحَافِظٍ وَلَا رَقِيبٍ، بَلْ أَنَا مُبَلِّغٌ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ﴾ أَيْ: وَكَمَا فَصَّلْنَا الْآيَاتِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، مِنْ بَيَانِ التَّوْحِيدِ وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، هَكَذَا نُوَضِّحُ الْآيَاتِ وَنُفَسِّرُهَا وَنُبَيِّنُهَا فِي كُلِّ مَوْطِنٍ لِجَهَالَةِ الْجَاهِلِينَ، وَلِيَقُولَ الْمُشْرِكُونَ وَالْكَافِرُونَ الْمُكَذِّبُونَ: دَارَسْتَ يَا مُحَمَّدُ مَنْ قَبْلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَارَأْتَهُمْ وَتَعَلَّمْتَ مِنْهُمْ.هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْر، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُهُمْ.وَقَدْ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ كَيْسَانَ، سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: ﴿دَارَسْتَ﴾ تلوتَ، خاصمتَ، جادلتَ(١)وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ كَذِبِهِمْ وَعِنَادِهِمْ: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا. وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا [فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا](٢) ﴾ [الْفُرْقَانِ: ٤، ٥] ، وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ زَعِيمِهِمْ وَكَاذِبِهِمْ: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ [الْمُدَّثِّرِ: ١٨ -٢٥] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أَيْ: وَلِنُوَضِّحَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَيَتَّبِعُونَهُ، وَالْبَاطِلَ فَيَجْتَنِبُونَهُ. فَلِلَّهِ تَعَالَى الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي إِضْلَالِ أُولَئِكَ، وَبَيَانِ الْحَقِّ لِهَؤُلَاءِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا [وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ](٣) ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٦] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ(٤) ﴾ [الْحَجِّ: ٥٣] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ﴾ [الْمُدَّثِّرِ: ٣١] .وَقَالَ [تَعَالَى](٥) ﴿وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٨٢] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [فُصِّلَتْ: ٤٤] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ الْقُرْآنَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، وَأَنَّهُ يُضِلُّ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ: وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: ﴿وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ﴾قَالَ التَّمِيمِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "دَرَسْتَ" أَيْ: قَرَأْتَ وَتَعَلَّمْتَ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، والسُّدِّي وَالضَّحَّاكُ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، قَالَ الْحَسَنُ: "وَلِيَقُولُوا دَرَسْت"، يَقُولُ: تَقَادَمَتْ وَانْمَحَتْ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا: أَنْبَأَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، سَمِعْتُ ابن الزبير يقول: إن صبيانا يقرؤون هَاهُنَا: "دَرَسَتْ"، وَإِنَّمَا هِيَ: "دَرَسْتَ".وَقَالَ شُعْبَةُ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ قَالَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "دَرَسَتْ" بِغَيْرِ أَلْفٍ، بِنَصْبِ السِّينِ وَوَقْفٍ عَلَى التَّاءِ.وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَمَعْنَاهُ انْمَحَتْ وَتَقَادَمَتْ، أَيْ: إِنَّ هَذَا الَّذِي تَتْلُوهُ عَلَيْنَا قَدْ مَرَّ بِنَا قَدِيمًا، وَتَطَاوَلَتْ مُدَّتُهُ.وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَة، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَرَأَهَا: "دُرِسَتْ" أَيْ: قُرئت وتُعُلِّمت.وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: "دُرِسَتْ": قُرِئَتْ. وَفِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ "دَرَسَ".وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ هَارُونَ قَالَ: هِيَ فِي حَرْفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ: "وَلِيَقُولُوا دَرَس". قَالَ: يَعْنُونَ النَّبِيَّ ﷺ أَنَّهُ قَرَأَ(٦)وَهَذَا غَرِيبٌ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ خِلَافُ هَذَا، قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيه: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ اللَّيْثِ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَزَّة(٧) الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ زَمَعَة، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ﴿وَلِيَقُولُوا دَرَسْت﴾ .وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، مِنْ حَدِيثِ وَهْبِ بْنِ زَمْعَةَ، وَقَالَ: يَعْنِي بِجَزْمِ السِّينِ، وَنَصْبِ التَّاءِ، ثُمَّ قَالَ:(٨) صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ(٩)

(١) المعجم الكبير للطبراني (١١/١٣٧) . وقال الهيثمي في المجمع (٧/٢٢) : "رجاله ثقات".
(٢) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(٣) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(٤) في هـ: "وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مستقيم".
(٥) زيادة من م، أ.
(٦) ورواه الطبري في تفسيره (١٢/٣١) من طريق أبي عبيد عن حجاج به.
(٧) في م: "ابن مرة".
(٨) في م: "وقال".
(٩) المستدرك (٢/٢٣٨) .

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الخميس، 26 يناير 2023

من سورة الأنعام

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٠١
من سورة الأنعام 
﴿بَدِیعُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۖ أَنَّىٰ یَكُونُ لَهُۥ وَلَدࣱ وَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ صَـٰحِبَةࣱۖ وَخَلَقَ كُلَّ شَیۡءࣲۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ﴾ [الأنعام ١٠١]

﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾ أي: مبدع السموات والآرض وخالقهما ومنشئهما و [محدثها](١) عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ، كَمَا قَالَ(٢) مُجَاهِدٌ والسُّدِّي. وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْبِدْعَةُ بِدَعَةً؛ لِأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهَا فِيمَا سَلَفَ.﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ﴾ أَيْ: كَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ؟ أَيْ: وَالْوَلَدُ إِنَّمَا يَكُونُ مُتَوَلِّدًا عَنْ شَيْئَيْنِ مُتَنَاسِبَيْنِ، وَاللَّهُ لَا يُنَاسِبُهُ وَلَا يُشَابِهُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ؛ لِأَنَّهُ خَالِقُ(٣) كُلِّ شَيْءٍ، فَلَا صَاحِبَةَ لَهُ وَلَا وَلَدَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا [تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ * هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا *](٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ [مَرْيَمَ: ٨٨ -٩٥] .﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فَبَيِّنَ تَعَالَى أَنَّهُ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ صَاحِبَةٌ مِنْ خَلْقِهِ تُنَاسِبُهُ؟ وَهُوَ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ فَأَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

(١) زيادة من أ.
(٢) في أ: "قاله".
(٣) في أ: "خلق".
(٤) زيادة من م، أ، وفي هـ: "إلى قوله".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الأحد، 22 يناير 2023

من سورة الأنعام

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٩٥_٩٧ 
من سورة الأنعام 
﴿۞ إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلۡحَبِّ وَٱلنَّوَىٰۖ یُخۡرِجُ ٱلۡحَیَّ مِنَ ٱلۡمَیِّتِ وَمُخۡرِجُ ٱلۡمَیِّتِ مِنَ ٱلۡحَیِّۚ ذَ ٰ⁠لِكُمُ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ (٩٥) فَالِقُ ٱلۡإِصۡبَاحِ وَجَعَلَ ٱلَّیۡلَ سَكَنࣰا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ حُسۡبَانࣰاۚ ذَ ٰ⁠لِكَ تَقۡدِیرُ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡعَلِیمِ (٩٦) وَهُوَ ٱلَّذِی جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ لِتَهۡتَدُوا۟ بِهَا فِی ظُلُمَـٰتِ ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۗ قَدۡ فَصَّلۡنَا ٱلۡـَٔایَـٰتِ لِقَوۡمࣲ یَعۡلَمُونَ (٩٧)﴾ [الأنعام ٩٥-٩٧]

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى، أَيْ: يَشُقُّهُ فِي الثَّرَى فَتَنْبُتُ الزُّرُوعُ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا مِنَ الْحُبُوبِ، وَالثِّمَارُ عَلَى اخْتِلَافِ أَشْكَالِهَا وَأَلْوَانِهَا وَطُعُومِهَا مِنَ النَّوَى؛ وَلِهَذَا فَسَّرَ [قَوْلَهُ](١) ﴿فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾ بِقَوْلِهِ ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ أَيْ: يُخْرِجُ النَّبَاتَ الْحَيَّ مِنَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، الَّذِي هُوَ كَالْجَمَادِ الْمَيِّتِ، كَمَا قَالَ: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * [وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ](٢) وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يس: ٣٣ -٣٦] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ﴾ مَعْطُوفٌ عَلَى ﴿فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾ ثُمَّ فَسَّرَهُ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ﴾وَقَدْ عَبَّرُوا عَنْ هَذَا [وَهَذَا](٣) بِعِبَارَاتٍ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ مُؤَدِّيَةٌ لِلْمَعْنَى، فَمِنْ قَائِلٍ: يُخْرِجُ الدَّجَاجَةَ مِنَ الْبَيْضَةِ، وَالْبَيْضَةَ مِنَ الدَّجَاجَةِ، من قَائِلٍ: يُخْرِجُ الْوَلَدَ الصَّالِحَ مِنَ الْكَافِرِ، وَالْكَافِرَ مِنَ الصَّالِحِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ الَّتِي تَنْتَظِمُهَا الْآيَةُ وَتَشْمَلُهَا.ثُمَّ قَالَ: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ﴾ أَيْ: فَاعِلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ أَيْ: فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ مِنَ الْحَقِّ وَتَعْدِلُونَ عَنْهُ إِلَى الْبَاطِلِ فَتَعْبُدُونَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا﴾ أَيْ: خَالِقُ الضِّيَاءِ وَالظَّلَامِ، كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَفْلِقُ ظَلَامَ اللَّيْلِ عَنْ غُرَّةِ الصَّبَاحِ، فَيُضِيءُ الْوُجُودَ، وَيَسْتَنِيرُ الْأُفُقُ، وَيَضْمَحِلُّ الظَّلَامُ، وَيَذْهَبُ اللَّيْلُ بِدَآدِئِهِ(٤) وَظَلَامِ رِوَاقِهِ، وَيَجِيءُ النَّهَارُ بِضِيَائِهِ وَإِشْرَاقِهِ، كَمَا قَالَ [تَعَالَى](٥) ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ [الْأَعْرَافِ: ٥٤] ، فَبَيَّنَ تَعَالَى قُدْرَتَهُ عَلَى خَلْقِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَضَادَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ عَظَمَتِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَقَابَلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا﴾ أَيْ: سَاجِيًا مُظْلِمًا تَسْكُنُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ، كَمَا قَالَ: ﴿وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾ [الضُّحَى: ١، ٢] ، وَقَالَ ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾ [اللَّيْلِ: ١، ٢] ، وَقَالَ ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا﴾ [الشَّمْسِ: ٣، ٤] .وَقَالَ صُهَيْبٌ الرُّومِيُّ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ](٦) لِامْرَأَتِهِ وَقَدْ عَاتَبَتْهُ فِي كَثْرَةِ سَهَرِهِ: إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا إِلَّا لِصُهَيْبٍ، إِنَّ صُهَيْبًا إِذَا ذَكَرَ الْجَنَّةَ طَالَ شَوْقُهُ، وَإِذَا ذَكَرَ النَّارَ طَارَ نَوْمُهُ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا﴾ أَيْ: يَجْرِيَانِ بِحِسَابٍ مُقَنَّنٍ مُقَدَّرٍ، لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَضْطَرِبُ، بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا لَهُ مَنَازِلُ يَسْلُكُهَا فِي الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ طُولًا وَقِصَرًا، كَمَا قَالَ [تَعَالَى](٧) ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ [لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ](٨) ﴾الْآيَةَ [يُونُسَ: ٥] ، وَكَمَا قَالَ: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: ٤٠] ، وَقَالَ ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾ [الْأَعْرَافِ: ٥٤] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ أَيِ: الْجَمِيعُ جَارٍ بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الَّذِي لَا يُمَانَعُ وَلَا يُخَالَفُ الْعَلِيمِ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَكَثِيرًا مَا إِذَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، يَخْتِمُ الْكَلَامَ بِالْعِزَّةِ وَالْعِلْمِ، كَمَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [يس: ٣٧، ٣٨] .وَلَمَّا ذكر خلق السموات وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ فِي أَوَّلِ سُورَةِ ﴿حم﴾ السَّجْدَةِ، قَالَ: ﴿وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [فُصِّلَتْ: ١٢] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنِ اعْتَقَدَ فِي هَذِهِ النُّجُومِ غَيْرَ ثَلَاثٍ فَقَدْ أَخْطَأَ وَكَذَبَ عَلَى اللَّهِ: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ(٩) وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَيُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ﴾ أَيْ: قَدْ بَيَّنَّاهَا وَوَضَّحْنَاهَا ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أَيْ: يَعْقِلُونَ وَيَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَيَجْتَنِبُونَ(١٠) الْبَاطِلَ.

(١) زيادة من م.
(٢) زيادة من أ، وفي هـ: "إلى قوله".
(٣) زيادة من م، أ.
(٤) في أ: "بذاته".
(٥) زيادة من أ.
(٦) زيادة من أ.
(٧) زيادة من أ.
(٨) زيادة من أ.
(٩) في أ: "السماء".
(١٠) في أ: "ويتجنبون".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الجمعة، 20 يناير 2023

من سورة الروم

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٤٦_٤٧ 
من سورة الروم 
﴿وَمِنۡ ءَایَـٰتِهِۦۤ أَن یُرۡسِلَ ٱلرِّیَاحَ مُبَشِّرَ ٰ⁠تࣲ وَلِیُذِیقَكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَلِتَجۡرِیَ ٱلۡفُلۡكُ بِأَمۡرِهِۦ وَلِتَبۡتَغُوا۟ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوۡمِهِمۡ فَجَاۤءُوهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَٱنتَقَمۡنَا مِنَ ٱلَّذِینَ أَجۡرَمُوا۟ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَیۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ (٤٧)﴾ [الروم ٤٦-٤٧]

يَذْكُرُ تَعَالَى نعَمه عَلَى خَلْقِهِ، فِي إِرْسَالِهِ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، بِمَجِيءِ الْغَيْثِ(١) عَقِيبِهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ أَيِ: الْمَطَرُ الَّذِي يُنْزِلُهُ فَيُحْيِيَ بِهِ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ، ﴿وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ﴾ أَيْ: فِي الْبَحْرِ، وَإِنَّمَا سَيَّرَهَا بِالرِّيحِ، ﴿وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ أَيْ: فِي التِّجَارَاتِ وَالْمَعَايِشِ، وَالسَّيْرِ مِنْ إِقْلِيمٍ إِلَى إِقْلِيمٍ، وَقُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أَيْ: تَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنَ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى.ثُمَّ قَالَ: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا﴾ هَذِهِ تَسْلِيَةٌ مِنَ اللَّهِ لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ(٢) ، بِأَنَّهُ وَإِنْ كَذَّبَهُ كَثِيرٌ مِنْ قَوْمِهِ وَمِنَ النَّاسِ، فَقَدْ كُذّبت الرُّسُلُ الْمُتَقَدِّمُونَ مَعَ مَا جَاءُوا أُمَمَهُمْ بِهِ مِنَ الدَّلَائِلِ الْوَاضِحَاتِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ انْتَقَمَ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ وَخَالَفَهُمْ، وَأَنْجَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ، ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ، هُوَ حَقٌّ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، تَكَرُّمًا وَتَفَضُّلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٥٤] .قَالَ(٣) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ نُفَيْلٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَب(٤) ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "ما مِنَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَرُدُّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ، إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَرُدَّ عَنْهُ نَارَ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾(٥) .

(١) في ت، ف: "بمجيء المطر والغيث".
(٢) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
(٣) في ت: "وروى".
(٤) في ت: "بإسناده".
(٥) ورواه أحمد في المسند (٦/٤٤٨) من طريق إسماعيل، وابن أبي الدنيا في الغيبة والنميمة برقم (١٠٢) من طريق جرير كلاهما عَنْ لَيْثٍ - وَهُوَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمٍ - بِهِ ولم يذكر الآية.

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الأربعاء، 18 يناير 2023

من سورة الأنعام

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٩٣_٩٤ 
من سورة الأنعام 
﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوۡ قَالَ أُوحِیَ إِلَیَّ وَلَمۡ یُوحَ إِلَیۡهِ شَیۡءࣱ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثۡلَ مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُۗ وَلَوۡ تَرَىٰۤ إِذِ ٱلظَّـٰلِمُونَ فِی غَمَرَ ٰ⁠تِ ٱلۡمَوۡتِ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ بَاسِطُوۤا۟ أَیۡدِیهِمۡ أَخۡرِجُوۤا۟ أَنفُسَكُمُۖ ٱلۡیَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَیۡرَ ٱلۡحَقِّ وَكُنتُمۡ عَنۡ ءَایَـٰتِهِۦ تَسۡتَكۡبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدۡ جِئۡتُمُونَا فُرَ ٰ⁠دَىٰ كَمَا خَلَقۡنَـٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةࣲ وَتَرَكۡتُم مَّا خَوَّلۡنَـٰكُمۡ وَرَاۤءَ ظُهُورِكُمۡۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمۡ شُفَعَاۤءَكُمُ ٱلَّذِینَ زَعَمۡتُمۡ أَنَّهُمۡ فِیكُمۡ شُرَكَـٰۤؤُا۟ۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَیۡنَكُمۡ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ (٩٤)﴾ [الأنعام ٩٣-٩٤]

يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ كذب على الله، فجعل لَهُ شَرِيكًا أَوْ وَلَدًا، أَوِ ادَّعَى أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ إِلَى النَّاسِ وَلَمْ يَكُنْ أَرْسَلَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ﴾قَالَ عِكْرِمة وَقَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ [لَعَنَهُ اللَّهُ](١)﴿وَمَنْ قَالَ سَأُنزلُ مِثْلَ مَا أَنزلَ اللَّهُ﴾ يَعْنِي: وَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ يُعَارِضُ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ الْوَحْيِ مِمَّا يَفْتَرِيهِ مِنَ الْقَوْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا [إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ](٢) ﴾ [الْأَنْفَالِ: ٣١] ، قَالَ اللَّهُ: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾ أَيْ: فِي سَكَرَاتِهِ وَغَمَرَاتِهِ وكُرُباته، ﴿وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾ أَيْ: بِالضَّرْبِ كَمَا قَالَ: ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي [مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ] ﴾(٣) الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: ٢٨] ، وَقَالَ: ﴿وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ﴾ الْآيَةَ [الْمُمْتَحِنَةِ: ٢] .وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَأَبُو صَالِحٍ: ﴿بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾ أَيْ: بِالْعَذَابِ. وَكَمَا قَالَ [تَعَالَى](٤) ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ [الْأَنْفَالِ: ٥٠] ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾ أَيْ: بِالضَّرْبِ لَهُمْ حَتَّى تَخْرُجَ أَنْفُسُهُمْ مِنْ أَجْسَادِهِمْ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ لَهُمْ: ﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ﴾ وَذَلِكَ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا احْتَضَرَ بَشَّرَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِالْعَذَابِ والنَّكال، وَالْأَغْلَالِ وَالسَّلَاسِلِ، وَالْجَحِيمِ وَالْحَمِيمِ، وَغَضَبِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَتَتَفَرَّقُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَتَعْصَى وَتَأْبَى الْخُرُوجَ، فَتَضْرِبُهُمُ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تَخْرُجَ أَرْوَاحُهُمْ مِنْ أَجْسَادِهِمْ، قَائِلِينَ لَهُمْ: ﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ [وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ] ﴾(٥) أَيِ: الْيَوْمَ تُهَانُونَ غَايَةَ الْإِهَانَةِ، كَمَا كُنْتُمْ تَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ، وَتَسْتَكْبِرُونَ عَنِ اتِّبَاعِ آيَاتِهِ، وَالِانْقِيَادِ لِرُسُلِهِ.وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ [مُتَوَاتِرَةٌ](٦) فِي كَيْفِيَّةِ احْتِضَارِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَهِيَ مُقَرَّرَةٌ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ٢٧] .وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ مَرْدُوَيه هَاهُنَا حَدِيثًا مُطَوَّلًا جِدًّا مِنْ طَرِيقٍ غَرِيبَةٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ(٧)
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ مَعَادِهِمْ هَذَا، كَمَا قَالَ ﴿وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الْكَهْفِ: ٤٨] ، أَيْ: كَمَا بَدَأْنَاكُمْ أَعَدْنَاكُمْ، وَقَدْ كُنْتُمْ تُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَتَسْتَبْعِدُونَهُ، فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ﴾ أَيْ: مِنَ النِّعَمِ وَالْأَمْوَالِ الَّتِي اقْتَنَيْتُمُوهَا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا ﴿وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾ وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مالك إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ".وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يُؤْتَى بِابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ بَذَج فَيَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، [لَهُ](٨) أَيْنَ مَا جَمَعْتَ؟ فَيَقُولُ يَا رَبِّ، جَمَعْتُهُ وَتَرَكْتُهُ أَوْفَرَ مَا كَانَ، فَيَقُولُ: فَأَيْنَ مَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ؟ فَلَا يَرَاهُ قَدَّمَ شَيْئًا، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ﴾ تَقْرِيعٌ لَهُمْ وَتَوْبِيخٌ عَلَى مَا كَانُوا اتَّخَذُوا فِي [الدَّارِ](٩) الدُّنْيَا مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، ظَانِّينَ أَنَّ تِلْكَ تَنْفَعُهُمْ(١٠) فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ إِنْ كَانَ ثَمَّ(١١) مَعَادٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ تَقَطَّعَتِ الْأَسْبَابُ، وَانْزَاحَ الضَّلَالُ، وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ، وَيُنَادِيهِمُ الرَّبُّ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ: ﴿أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٢٢] وَقِيلَ(١٢) لَهُمْ ﴿أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ٩٢، ٩٣] ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ﴾ أَيْ: فِي الْعِبَادَةِ، لَهُمْ فِيكُمْ قِسْطٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ لَهُمْ.ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ قُرئ بِالرَّفْعِ، أَيْ شَمْلُكُمْ، وقُرئ بِالنَّصْبِ، أَيْ: لَقَدِ انْقَطَعَ مَا بَيْنَكُمْ(١٣) مِنَ الوُصُلات وَالْأَسْبَابِ وَالْوَسَائِلِ ﴿وَضَلَّ عَنْكُمْ﴾ أَيْ: وَذَهَبَ عَنْكُمْ ﴿مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ مِنْ رَجَاءِ الْأَصْنَامِ، كَمَا قَالَ: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٦٦، ١٦٧] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ﴾ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠١] ، وَقَالَ ﴿إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: ٢٥] ، وَقَالَ ﴿وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ﴾ الْآيَةَ [الْقَصَصِ: ٦٤] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٢٢ -٢٤] ، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كثيرة جدا.

(١) زيادة من أ.
(٢) زيادة من م، أ، وفي هـ "الآية".
(٣) زيادة من م، أ.
(٤) زيادة من م.
(٥) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(٦) زيادة من م، وفي أ: "الأحاديث المتواترة".
(٧) ذكره السيوطي في الدر المنثور (٣/٣١٨) وقال: إسناده ضعيف.
(٨) زيادة من أ.
(٩) زيادة من أ.
(١٠) في م: "ذلك ينفعهم".
(١١) في أ: "ثمة".
(١٢) في أ: "أو قيل".
(١٣) في أ: "تقطع بينكم".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الثلاثاء، 17 يناير 2023

من سورة الأنعام

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٩١_٩٢ 
من سورة الأنعام 
﴿وَمَا قَدَرُوا۟ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦۤ إِذۡ قَالُوا۟ مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرࣲ مِّن شَیۡءࣲۗ قُلۡ مَنۡ أَنزَلَ ٱلۡكِتَـٰبَ ٱلَّذِی جَاۤءَ بِهِۦ مُوسَىٰ نُورࣰا وَهُدࣰى لِّلنَّاسِۖ تَجۡعَلُونَهُۥ قَرَاطِیسَ تُبۡدُونَهَا وَتُخۡفُونَ كَثِیرࣰاۖ وَعُلِّمۡتُم مَّا لَمۡ تَعۡلَمُوۤا۟ أَنتُمۡ وَلَاۤ ءَابَاۤؤُكُمۡۖ قُلِ ٱللَّهُۖ ثُمَّ ذَرۡهُمۡ فِی خَوۡضِهِمۡ یَلۡعَبُونَ (٩١) وَهَـٰذَا كِتَـٰبٌ أَنزَلۡنَـٰهُ مُبَارَكࣱ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِی بَیۡنَ یَدَیۡهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَاۚ وَٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡـَٔاخِرَةِ یُؤۡمِنُونَ بِهِۦۖ وَهُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ یُحَافِظُونَ (٩٢)﴾ [الأنعام ٩١-٩٢]

يَقُولُ تَعَالَى: وَمَا عَظَّمُوا اللَّهَ حَقَّ تَعْظِيمِهِ، إِذْ كَذَّبُوا رُسُلَهُ إِلَيْهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ؛ وَقِيلَ: فِي فِنْحَاصَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: فِي مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ.﴿قَالُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَالْيَهُودُ لَا يُنْكِرُونَ إِنْزَالَ الْكُتُبِ مِنَ السَّمَاءِ، وَقُرَيْشٌ -وَالْعَرَبُ قَاطِبَةً -كَانُوا يُبْعِدُونَ إِرْسَالَ رَسُولٍ مِنَ الْبَشَرِ، كَمَا قَالَ [تَعَالَى](١) ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ](٢) ﴾ [يُونُسَ: ٢] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنزلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٩٤، ٩٥] ، وَقَالَ هَاهُنَا: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ﴾ ؟ أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ لِإِنْزَالِ شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فِي جَوَابِ سَلْبِهِمُ الْعَامِّ بِإِثْبَاتِ قَضِيَّةٍ جُزْئِيَّةٍ مُوجِبَةٍ: ﴿مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى﴾ يَعْنِي: التَّوْرَاةَ الَّتِي قَدْ عَلِمْتُمْ -وَكُلُّ أَحَدٍ -أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَهَا عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ، أَيْ: لِيُسْتَضَاءَ بِهَا فِي كَشْفِ الْمُشْكِلَاتِ، وَيُهْتَدَى بِهَا مِنْ ظُلَمِ الشُّبُهَاتِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾(٣) أَيْ: يَجْعَلُهَا حَمَلَتُهَا(٤) قَرَاطِيسَ، أَيْ: قِطَعًا يَكْتُبُونَهَا مِنَ الْكِتَابِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ وَيُحَرِّفُونَ فِيهَا مَا يُحَرِّفُونَ وَيُبَدِّلُونَ وَيَتَأَوَّلُونَ، وَيَقُولُونَ: ﴿هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٧٩] ، أَيْ: فِي كِتَابِهِ الْمُنَزَّلِ، وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ﴾ أَيْ: وَمَنْ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ الَّذِي عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فِيهِ مِنْ خَبَرِ مَا سَبَقَ، وَنَبَأِ مَا يَأْتِي مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ.قَالَ قَتَادَةُ: هَؤُلَاءِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذِهِ لِلْمُسْلِمِينَ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿قُلِ اللَّهُ﴾ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ: قُلِ: اللَّهُ أَنْزَلَهُ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، لَا مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، مِنْ أَنَّ مَعْنَى ﴿قُلِ اللَّهُ﴾ أَيْ: لَا يَكُونُ خِطَابٌ لَهُمْ إِلَّا هَذِهِ الْكَلِمَةَ، كَلِمَةَ: "اللَّهُ".وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ يَكُونُ أَمْرًا بِكَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ مِنْ غَيْرِ تَرْكِيبٍ، وَالْإِتْيَانُ بِكَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ لَا يُفِيدُ(٥) فِي لُغَةِ الْعَرَبِ فَائِدَةً يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهَا.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ أَيْ: ثُمَّ دَعْهُمْ فِي جَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ يَلْعَبُونَ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْيَقِينُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(٦) أَلَهُمُ الْعَاقِبَةُ، أَمْ لِعِبَادِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ؟.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ﴾ يَعْنِي: الْقُرْآنَ ﴿أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى﴾ يَعْنِي: مَكَّةَ ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، وَمِنْ سَائِرِ طَوَائِفِ بَنِي آدَمَ مِنْ عَرَبٍ وَعَجَمٍ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٥٨] ، وَقَالَ ﴿لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٩] ، وَقَالَ ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾ [هُودٍ: ١٧] ، وَقَالَ ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الْفُرْقَانِ: ١] ، وَقَالَ ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ٢٠] ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "أعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي" وَذَكَرَ مِنْهُنَّ: "وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً"(٧) ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ أَيْ: كُلُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ آمَنَ بِهَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، ﴿وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ أَيْ: يَقُومُونَ بِمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ، مِنْ أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا.

(١) زيادة من أ.
(٢) زيادة من أ.
(٣) قال ابن الجوزي في زاد المسير (٣/٨٤) : "قرأ ابن كثير وأبو عمرو: "يجعلونه في قراطيس يبدونها" و"يخفون" بالياء فيهن، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء فيهن". والظاهر أن الحافظ ابن كثير اعتمد على القراءة الأولى.
(٤) في أ: "تجعلها جملتها".
(٥) في م: "لا تفيد".
(٦) في أ: "يلعبون".
(٧) صحيح البخاري برقم (٣٣٥) وصحيح مسلم برقم (٥٢١) .

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الخميس، 12 يناير 2023

من سورة الأنعام

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٧٤_٧٩ 
من سورة الأنعام 
﴿۞ وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمُ لِأَبِیهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصۡنَامًا ءَالِهَةً إِنِّیۤ أَرَىٰكَ وَقَوۡمَكَ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ (٧٤) وَكَذَ ٰ⁠لِكَ نُرِیۤ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلِیَكُونَ مِنَ ٱلۡمُوقِنِینَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَیۡهِ ٱلَّیۡلُ رَءَا كَوۡكَبࣰاۖ قَالَ هَـٰذَا رَبِّیۖ فَلَمَّاۤ أَفَلَ قَالَ لَاۤ أُحِبُّ ٱلۡـَٔافِلِینَ (٧٦) فَلَمَّا رَءَا ٱلۡقَمَرَ بَازِغࣰا قَالَ هَـٰذَا رَبِّیۖ فَلَمَّاۤ أَفَلَ قَالَ لَىِٕن لَّمۡ یَهۡدِنِی رَبِّی لَأَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلضَّاۤلِّینَ (٧٧) فَلَمَّا رَءَا ٱلشَّمۡسَ بَازِغَةࣰ قَالَ هَـٰذَا رَبِّی هَـٰذَاۤ أَكۡبَرُۖ فَلَمَّاۤ أَفَلَتۡ قَالَ یَـٰقَوۡمِ إِنِّی بَرِیۤءࣱ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ (٧٨) إِنِّی وَجَّهۡتُ وَجۡهِیَ لِلَّذِی فَطَرَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ حَنِیفࣰاۖ وَمَاۤ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ (٧٩)﴾ [الأنعام ٧٤-٧٩]

قَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَبَا إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنِ اسْمُهُ آزرُ، إِنَّمَا كَانَ اسْمُهُ تَارِحَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلُ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ شَبِيبٌ، حَدَّثَنَا عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ﴾ يَعْنِي بِآزَرَ: الصَّنَمَ، وَأَبُو إِبْرَاهِيمَ اسْمُهُ تَارِحُ، وَأُمُّهُ اسْمُهَا مَثَانِي، وَامْرَأَتُهُ اسْمُهَا سَارَةُ، وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ اسْمُهَا هَاجَرُ، وَهِيَ سُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ.وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ النَّسَبِ: إِنَّ اسْمَهُ تَارِحُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ والسُّدِّي: آزَرُ: اسْمُ صَنَمٍ.قُلْتُ: كَأَنَّهُ غَلَبَ عَلَيْهِ آزَرُ لخدمته ذلك الصنم، فالله أعلم(١) وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: "هُوَ سَبٌّ(٢) وَعَيْبٌ بِكَلَامِهِمْ، وَمَعْنَاهُ: مُعْوَج" وَلَمْ يُسْنِدْهُ وَلَا حَكَاهُ عَنْ أَحَدٍ.وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذُكر عَنْ مُعْتَمِر بْنِ سُلَيْمَانَ، سَمِعْتُ أَبِي يَقْرَأُ: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ﴾ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهَا أَعْوَجُ، وَأَنَّهَا أَشَدُّ كَلِمَةٍ قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ أَنَّ اسْمَ أَبِيهِ آزَرُ. ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلَ النَّسَّابِينَ أَنَّ اسْمَهُ تَارِحُ، ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ اسْمَانِ، كَمَا لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، أَوْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا لَقَبًا(٣) وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي أَدَاءِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ﴾ فَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ أَنَّهُمَا كَانَا يَقْرَآنِ: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً﴾ مَعْنَاهُ: يَا آزَرُ، أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً.وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْفَتْحِ، إِمَّا عَلَى أَنَّهُ عَلَمٌ أَعْجَمِيٌّ لَا يَنْصَرِفُ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿لأبِيهِ﴾ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَهُوَ أَشْبَهُ.وَعَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ نَعْتًا لَا يَنْصَرِفُ أَيْضًا كَأَحْمَرَ وَأَسْوَدَ.فَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ لِكَوْنِهِ مَعْمُولًا لِقَوْلِهِ: ﴿أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا﴾ تَقْدِيرُهُ: يَا أَبَتِ، أَتُتَّخِذُ آزَرَ أَصْنَامًا آلِهَةً، فَإِنَّهُ قَوْلٌ بَعِيدٌ فِي اللُّغَةِ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ لَهُ صَدْرَ الْكَلَامِ، كَذَا قَرَّرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي قَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ.وَالْمَقْصُودُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَظَ أَبَاهُ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَزَجَرَهُ عَنْهَا، وَنَهَاهُ فَلَمْ يَنْتَهِ، كَمَا قَالَ: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً﴾ أَيْ: أَتَتَأَلَّهُ لِصَنَمٍ تَعْبُدُهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، ﴿إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ﴾ أَيِ: السَّالِكِينَ مَسْلَكَكَ ﴿فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ أَيْ: تَائِهِينَ لَا يَهْتَدُونَ أَيْنَ يَسْلُكُونَ، بَلْ فِي حِيرَةٍ وَجَهْلٍ وَأَمْرُكُمْ فِي الْجَهَالَةِ وَالضَّلَالِ بَيِّنٌ وَاضِحٌ لِكُلِّ ذِي عَقْلٍ صَحِيحٍ.وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لأبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾ [مريم: ٤١ -٤٨] ، فَكَانَ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَسْتَغْفِرُ لِأَبِيهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا مَاتَ عَلَى الشِّرْكِ وَتَبَيَّنَ إِبْرَاهِيمُ ذَلِكَ، رَجَعَ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُ، وَتَبَرَّأَ مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التَّوْبَةِ: ١١٤] .وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ يَلْقَى أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ لَهُ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ، الْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: أَيْ رَبِّ، أَلَمْ تَعِدْنِي أَنَّكَ لَا(٤) تُخْزُنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ(٥) وَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ؟ فَيُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ، انْظُرْ مَا وَرَاءَكَ. فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُتَلَطِّخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ(٦)
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾ أَيْ: تبين لَهُ وَجْهَ الدَّلَالَةِ فِي نَظَرِهِ إِلَى خَلْقِهِمَا عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فِي مُلْكِهِ وَخَلْقِهِ، وَإِنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، كَقَوْلِهِ(٧) ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾ [يُونُسَ: ١٠١] ، وَقَالَ ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٨٥] ، وَقَالَ ﴿أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ [سَبَأٍ: ٩] .فَأَمَّا مَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وعَطاء، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، والسُّدِّي، وَغَيْرِهِمْ قَالُوا -وَاللَّفْظُ لِمُجَاهِدٍ -: فُرِجَتْ لَهُ السَّمَوَاتُ، فَنَظَرَ إِلَى مَا فِيهِنَّ، حَتَّى انْتَهَى بَصَرُهُ إِلَى الْعَرْشِ، وَفُرِجَتْ لَهُ الْأَرْضُونَ السَّبْعُ، فَنَظَرَ إِلَى مَا فِيهِنَّ -وَزَادَ غَيْرُهُ -: فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى الْعِبَادِ عَلَى الْمَعَاصِي فَيَدْعُوَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: إِنِّي أَرْحَمُ بِعِبَادِي مِنْكَ، لَعَلَّهُمْ أَنْ يَتُوبُوا وَيُرَاجِعُوا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدُوَيه فِي ذَلِكَ حَدِيثَيْنِ مَرْفُوعَيْنِ، عَنْ مُعَاذٍ، وَعْلَيِّ [بْنِ أَبِي طَالِبٍ](٨)(٩) وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ العَوْفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ فَإِنَّهُ تَعَالَى جَلَا لَهُ الْأَمْرَ؛ سِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ، فَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ الْخَلَائِقِ، فَلَمَّا جَعَلَ يَلْعَنُ أَصْحَابَ الذُّنُوبِ قَالَ اللَّهُ: إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ هَذَا. فَرَدَّهُ [اللَّهُ](١٠) -كَمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ -فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَشَفَ لَهُ عَنْ بَصَرِهِ، حَتَّى رَأَى ذَلِكَ عَيَانًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَنْ بَصِيرَتِهِ حَتَّى شَاهَدَهُ بِفُؤَادِهِ وَتَحَقَّقَهُ وَعَرَفَهُ، وَعَلِمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ وَالدَّلَالَاتِ الْقَاطِعَةِ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ](١١) فِي حَدِيثِ الْمَنَامِ: "أَتَانِي رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي يَا رَبِّ، فَوَضَعَ كَفَّهُ(١٢) بَيْنَ كَتِفِي، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ ثَدْيِي، فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ وَعَرَفْتُ ... " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ(١٣)
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ قِيلَ: "الْوَاوُ" زَائِدَةٌ، تَقْدِيرُهُ: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، كَقَوْلِهِ: ﴿ [وَكَذَلِكَ](١٤) نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٥٥] .وَقِيلَ: بَلْ هِيَ عَلَى بَابِهَا، أَيْ نُرِيهِ ذَلِكَ لِيَكُونَ عَالِمًا وَمُوقِنًا.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ﴾ أَيْ: تَغَشَّاهُ وَسَتَرَهُ ﴿رَأَى كَوْكَبًا﴾ أَيْ: نَجْمًا، ﴿قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ﴾ أَيْ: غَابَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ: "الْأُفُولُ" الذَّهَابُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يُقَالُ: أَفَلَ النَّجْمُ يأفلُ ويأفِل أُفُولًا وأفْلا إِذَا غَابَ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ.مَصَابِيحُ لَيْسَتْ بِاللَّوَاتِي تَقُودُها(١٥) نُجُومٌ، وَلَا بِالْآفِلَاتِ الدَّوَالِكِ(١٦)وَيُقَالُ: أَيْنَ أَفَلْتَ عَنَّا؟ بِمَعْنَى: أَيْنَ غِبْتَ عَنَّا؟قَالَ: ﴿قَالَ لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾ قَالَ قَتَادَةُ: عَلِمَ أَنَّ رَبَّهُ دَائِمٌ لَا يَزُولُ، ﴿فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا﴾ أَيْ: طَالِعَا ﴿قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ أَيْ: هَذَا الْمُنِيرُ(١٧) الطَّالِعُ رَبِّي ﴿هَذَا أَكْبَرُ﴾ أَيْ: جِرْمًا مِنَ النَّجْمِ وَمِنَ الْقَمَرِ، وَأَكْثَرَ إِضَاءَةً.: ﴿فَلَمَّا أَفَلَتْ﴾ أَيْ: غَابَتْ، ﴿قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ﴾ أَيْ أَخْلَصْتُ دِينِيَ وَأَفْرَدْتُ عِبَادَتِي ﴿لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ﴾ أَيْ: خَلَقَهُمَا وَابْتَدَعَهُمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ. ﴿حَنِيفًا﴾ أَيْ فِي حَالِ كَوْنِي حَنِيفًا، أَيْ: مَائِلًا عَنِ الشِّرْكِ إِلَى التَّوْحِيدِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، هَلْ هُوَ مَقَامُ نَظَرٍ أَوْ مُنَاظَرَةٍ؟ فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مَقَامُ نَظَرٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ: ﴿لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي [لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ](١٨) ﴾وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ ذَلِكَ حِينَ خَرَجَ مِنَ السَّرَبِ الَّذِي وَلَدَتْهُ فِيهِ أُمُّهُ، حِينَ تَخَوَّفَتْ عَلَيْهِ النَّمْرُودَ بْنَ كَنْعَانَ، لَمَّا أنْ قَدْ أُخْبِرَ بِوُجُودِ مَوْلُودٍ يَكُونُ ذَهَابُ مُلْكِكَ عَلَى يَدَيْهِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْغِلْمَانِ عامئذٍ. فَلَمَّا حَمَلَتْ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ بِهِ وَحَانَ وَضْعُهَا، ذَهَبَتْ بِهِ إِلَى سَرَبٍ ظاهر البلد، فولدت فيه إِبْرَاهِيمَ وَتَرَكَتْهُ هُنَاكَ. وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، كَمَا ذَكَرَهَا غَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.وَالْحَقُّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُنَاظِرًا لِقَوْمِهِ، مُبَيِّنًا لَهُمْ بُطْلَانَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْهَيَاكِلِ وَالْأَصْنَامِ، فَبَيَّنَ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ مَعَ أَبِيهِ خَطَأَهُمْ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الْأَرْضِيَّةِ، الَّتِي هِيَ عَلَى صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ السَّمَاوِيَّةِ، لِيَشْفَعُوا لَهُمْ إِلَى الْخَالِقِ الْعَظِيمِ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يَعْبُدُوهُ، وَإِنَّمَا يَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ بِعِبَادَةِ مَلَائِكَتِهِ، لِيَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْدَهُ فِي الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ. وَبَيَّنَ فِي هَذَا الْمَقَامِ خَطَأَهُمْ وَضَلَالَهُمْ فِي عِبَادَةِ الْهَيَاكِلِ، وَهِيَ الْكَوَاكِبُ السَّيَّارَةُ السَّبْعَةُ الْمُتَحَيِّرَةُ، وَهِيَ: الْقَمَرُ، وَعُطَارِدُ، وَالزَّهْرَةُ، وَالشَّمْسُ، وَالْمِرِّيخُ، وَالْمُشْتَرَى، وَزُحَلُ، وَأَشُدُّهُنَّ إِضَاءَةً وَأَشْرَقُهُنَّ عِنْدَهُمُ الشَّمْسُ، ثُمَّ الْقَمَرُ، ثُمَّ الزُّهَرَةُ. فَبَيَّنَ أَوَّلًا أَنَّ هَذِهِ الزُّهْرَةَ لَا تَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ مَقَدَّرَةٌ بِسَيْرٍ مُعَيَّنٍ، لَا تَزِيغُ عَنْهُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا وَلَا تَمْلِكُ لِنَفْسِهَا تَصَرُّفًا، بَلْ هِيَ جِرْمٌ مِنَ الْأَجْرَامِ خَلَقَهَا اللَّهُ مُنِيرَةً، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ(١٩) الْعَظِيمَةِ، وَهِيَ تَطْلُعُ مِنَ الْمَشْرِقِ، ثُمَّ تَسِيرُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ حَتَّى تَغِيبَ عَنِ الْأَبْصَارِ فِيهِ، ثُمَّ تَبْدُو فِي اللَّيْلَةِ الْقَابِلَةِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ. وَمِثْلُ هَذِهِ لَا تَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ. ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْقَمَرِ. فَبَيَّنَ فِيهِ مِثْلَ مَا بَيَّنَ فِي النَّجْمِ.ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الشَّمْسِ كَذَلِكَ. فَلَمَّا انْتَفَتِ الْإِلَهِيَّةُ عَنْ هَذِهِ الْأَجْرَامِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي هِيَ أَنْوَرُ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الْأَبْصَارُ، وَتَحَقَّقَ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ، ﴿قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ أَيْ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ عِبَادَتِهِنَّ وَمُوَالَاتِهِنَّ، فَإِنْ كَانَتْ آلِهَةً، فَكِيدُونِي بِهَا جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونَ، ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ أَيْ: إِنَّمَا أَعْبُدُ خَالِقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَمُخْتَرِعَهَا وَمُسَخِّرَهَا وَمُقَدِّرَهَا وَمُدَبِّرَهَا، الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَإِلَهُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ٥٤] وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ [الْخَلِيلُ](٢٠) نَاظِرًا فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِي حَقِّهِ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾ الْآيَاتِ [الْأَنْبِيَاءِ: ٥١، ٥٢] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النَّحْلِ: ١٢٠ -١٢٣] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٦١] .وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "كل مولود يولد على الْفِطْرَةِ"(٢١) وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حَمَّادٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ: إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ"(٢٢) وَقَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الرُّومِ: ٣٠] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٧٢] وَمَعْنَاهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، كَقَوْلِهِ: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقٍّ سَائِرِ الْخَلِيقَةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ -الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ ﴿أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النَّحْلِ: ١٢٠] نَاظِرًا فِي هَذَا الْمَقَامِ؟! بَلْ هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَالسَّجِيَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِلَا شَكٍّ وَلَا رَيْبٍ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّهُ كَانَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُنَاظِرًا لِقَوْمِهِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ لَا نَاظِرًا قَوْلُهُ تَعَالَى(٢٣)

(١) في أ: "والله أعلم".
(٢) في م: "سبب".
(٣) وقد اعترض على قول ابن جرير الطبري ومحاولته الجمع، المحدث أحمد شاكر - رحمه الله - في بحث له في آخر كتاب "المعرب" للجواليقي قال في خاتمته: "والحجة القاطعة في نفي التأويلات التي زعموها في كلمة: "آزر"، وفي إبطال ما سموه قراءات، تخرج باللفظ عن أنه علم لوالد إبراهيم: الحديث الصحيح الصريح في البخاري: عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: لَا تَعْصِنِي؟ فَيَقُولُ أَبُوهُ: فاليوم لا أعصيك.... إلى آخر الحديث". وفي البخاري (٤/١٣٩ من الطبعة السلطانية) وفتح الباري (٦/٢٧٦ من طبعة بولاق) وشرح العيني (١٥/٢٤٣، ٢٤٤) من الطبعة المنيرية) ، فهذا النص يدل على أنه اسمه العلم، وهو لا يحتمل التأويل ولا التحريف.
(٤) في أ: "أن لا".
(٥) في م، أ: "الدين".
(٦) صحيح البخاري برقم (٣٣٥٠) .
(٧) في أ: "كما قال تعالى".
(٨) زيادة من م، أ.
(٩) أما حديث علي بن أبي طالب، فذكره السيوطي في الدر المنثور (٣/٣٠٢) . وأما حديث معاذ بن جبل، فرواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (٦٧٠٠) مِنْ طَرِيقِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ شهر بن حوشب، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(١٠) زيادة من م.
(١١) زيادة من أ.
(١٢) في أ: "يده".
(١٣) المسند (٥/٢٤٣) وسنن الترمذي برقم (٣٢٣٥) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح، سالت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح".
(١٤) زيادة من أ.
(١٥) في م: "يقودها".
(١٦) البيت في تفسير الطبري (١١/٤٨٥) واللسان مادة (دلك) .
(١٧) في م: "الشيء"، وفي أ: "البين".
(١٨) زيادة من أ، وفي هـ: "الآية".
(١٩) في أ: "الحكمة".
(٢٠) زيادة من أ.
(٢١) صحيح البخاري برقم (١٣٨٥) وصحيح مسلم برقم (٢٦٥٨) .
(٢٢) صحيح مسلم برقم (٢٨٦٥) .
(٢٣) في أ: "عز وجل".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الأربعاء، 11 يناير 2023

من سورة الأنعام

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٧١_٧٣ 
من سورة الأنعام 
﴿قُلۡ أَنَدۡعُوا۟ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا یَنفَعُنَا وَلَا یَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰۤ أَعۡقَابِنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ كَٱلَّذِی ٱسۡتَهۡوَتۡهُ ٱلشَّیَـٰطِینُ فِی ٱلۡأَرۡضِ حَیۡرَانَ لَهُۥۤ أَصۡحَـٰبࣱ یَدۡعُونَهُۥۤ إِلَى ٱلۡهُدَى ٱئۡتِنَاۗ قُلۡ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلۡهُدَىٰۖ وَأُمِرۡنَا لِنُسۡلِمَ لِرَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ (٧١) وَأَنۡ أَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّقُوهُۚ وَهُوَ ٱلَّذِیۤ إِلَیۡهِ تُحۡشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۖ وَیَوۡمَ یَقُولُ كُن فَیَكُونُۚ قَوۡلُهُ ٱلۡحَقُّۚ وَلَهُ ٱلۡمُلۡكُ یَوۡمَ یُنفَخُ فِی ٱلصُّورِۚ عَـٰلِمُ ٱلۡغَیۡبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِیمُ ٱلۡخَبِیرُ (٧٣)﴾ [الأنعام ٧١-٧٣]

قَالَ السُّدِّي: قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ: اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا، وَاتْرُكُوا دِينَ مُحَمَّدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا﴾ أَيْ: فِي الْكُفْرِ ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ فَيَكُونُ مثلُنا مَثَلَ الَّذِي ﴿اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ [حَيْرَانَ] ﴾(١) يَقُولُ: مَثَلُكُمْ، إِنْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ الْإِيمَانِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَ مَعَ قَوْمٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فَضَلَّ الطَّرِيقَ، فَحَيَّرَتْهُ الشَّيَاطِينُ، وَاسْتَهْوَتْهُ فِي الْأَرْضِ، وَأَصْحَابُهُ عَلَى الطَّرِيقِ، فَجَعَلُوا يَدْعُونَهُ إِلَيْهِمْ يَقُولُونَ: "ائْتِنَا فَإنَّا عَلَى الطَّرِيقِ"، فَأَبَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ. فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ يَتَّبِعُهُمْ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ وَمُحَمَّدٌ هُوَ الَّذِي يَدْعُو إِلَى الطَّرِيقِ، وَالطَّرِيقُ هُوَ الْإِسْلَامُ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ﴾ أَضَلَّتْهُ فِي الْأَرْضِ، يَعْنِي: اسْتَهْوَتْهُ(٢) مُثْلُ قَوْلِهِ: ﴿تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٧] .وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا﴾ الْآيَةَ. هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْآلِهَةِ وَمَنْ يَدْعُو إِلَيْهَا، وَالدُّعَاةُ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، كَمَثَلِ رَجُلٍ ضَلَّ عَنْ طَرِيقٍ تَائِهًا ضَالًّا إِذْ نَادَاهُ مُنَادٍ: "يَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، هَلُمَّ إِلَى الطَّرِيقِ"، وَلَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ: "يَا فُلَانُ، هَلُمَّ إِلَى الطَّرِيقِ"، فَإِنِ اتَّبَعَ الدَّاعِيَ الْأَوَّلَ، انْطَلَقَ بِهِ حَتَّى يُلْقِيَهُ إِلَى الْهَلَكَةِ(٣) وَإِنْ أَجَابَ مَنْ يَدْعُوهُ إِلَى الْهُدَى، اهْتَدَى إِلَى الطَّرِيقِ. وَهَذِهِ الدَّاعِيَةُ الَّتِي تَدْعُو فِي الْبَرِيَّةِ مِنَ الْغِيلَانِ، يَقُولُ: مَثَلُ مَنْ يَعْبُدُ هَذِهِ الْآلِهَةَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّهُ فِي شَيْءٍ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ، فَيَسْتَقْبِلُ الْهَلَكَةَ وَالنَّدَامَةَ. وَقَوْلُهُ: ﴿كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ﴾ هُمُ "الْغِيلَانُ"، يَدْعُونَهُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ، فَيَتَّبِعُهَا وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ فِي شَيْءٍ، فَيُصْبِحُ وَقَدْ أَلْقَتْهُ فِي هَلَكَةٍ، وَرُبَّمَا أَكَلَتْهُ -أَوْ تُلْقِيهِ فِي مَضَلَّةٍ مِنَ الْأَرْضِ، يَهْلَكُ فِيهَا عَطَشًا، فَهَذَا مِثْلُ مَنْ أَجَابَ الْآلِهَةَ الَّتِي تُعْبَدُ مَنْ دُونِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ﴾ قَالَ: رَجُلٌ حَيْرَانُ يَدْعُوهُ أَصْحَابُهُ إِلَى الطَّرِيقِ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَنْ يَضِلُّ بَعْدَ أَنْ هُدِيَ.وَقَالَ العَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ﴾ هُوَ الَّذِي لَا يَسْتَجِيبُ لِهُدَى اللَّهِ، وَهُوَ رَجُلٌ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ، وَعَمِلَ فِي الْأَرْضِ بِالْمَعْصِيَةِ، وَجَارَ(٤) عَنِ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُ، وَلَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الَّذِي يَأْمُرُونَهُ بِهِ هُدًى، يَقُولُ اللَّهُ ذَلِكَ لِأَوْلِيَائِهِمْ مِنَ الْإِنْسِ، يَقُولُ [اللَّهُ](٥) ﴿إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى﴾ وَالضَّلَالُ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْجِنُّ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أَصْحَابَهُ يَدْعُونَهُ إِلَى الضَّلَالِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ هُدًى. قَالَتْ: وَهَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ الْآيَةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ أَصْحَابَهُ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ ضَلَالًا وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ هُدًى.وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَكَانَ(٦) سِيَاقُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: فِي حَالِ حِيرَتِهِ وَضَلَالِهِ وَجَهْلِهِ وَجْهُ الْمَحَجَّةِ، وَلَهُ أَصْحَابٌ عَلَى الْمَحَجَّةِ سَائِرُونَ، فَجَعَلُوا يَدْعُونَهُ إِلَيْهِمْ وَإِلَى الذَّهَابِ مَعَهُمْ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَيَأْبَى عَلَيْهِمْ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَهَدَاهُ، وَلَرَدَّ بِهِ إِلَى الطَّرِيقِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى﴾كَمَا قَالَ: ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ﴾(٧) [الزُّمَرِ: ٣٧] ، وَقَالَ: ﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [النَّحْلِ: ٣٧] ، وَقَوْلُهُ ﴿وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أي: نخلص له العباد(٨) وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.﴿وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ﴾ أَيْ: وَأُمِرْنَا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَبِتَقْوَاهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، ﴿وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ.﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ﴾ أَيْ: بِالْعَدْلِ، فَهُوَ خَالِقُهُمَا وَمَالِكُهُمَا، وَالْمُدَبِّرُ لَهُمَا وَلِمَنْ فِيهِمَا.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ: ﴿كُنْ﴾ فَيَكُونُ عَنْ أَمْرِهِ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، أَوْ هُوَ أَقْرَبُ.﴿وَيَوْمَ﴾ مَنْصُوبٌ إِمَّا عَلَى الْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: ﴿وَاتَّقُوهُ﴾ وَتَقْدِيرُهُ: وَاتَّقُوا يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ، وَإِمَّا عَلَى قَوْلِهِ: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ﴾ أَيْ: وَخَلَقَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ. فَذَكَرَ بَدْءَ الْخَلْقِ وَإِعَادَتِهِ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ. وَإِمَّا عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ﴾ جُمْلَتَانِ مَحَلُّهُمَا الْجَرُّ، عَلَى أَنَّهُمَا صِفَتَانِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِقَوْلِهِ: ﴿وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ كَقَوْلِهِ ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غَافِرٍ: ١٦] ، وَكَقَوْلِهِ ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا﴾ [الْفَرْقَانِ: ٢٦] ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ فَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُرَادُ بِالصُّورِ هَاهُنَا جَمْعُ "صُورَةٍ" أَيْ: يَوْمَ يَنْفُخُ فِيهَا فَتَحْيَا.قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: كَمَا يُقَالُ(٩) سُورٌ -لِسُورِ الْبَلَدِ(١٠) هُوَ جَمْعُ سُورَةٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصُّورِ: "القَرْن" الَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ إِسْرَافِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ عِنْدَنَا مَا(١١) تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنه قَالَ: "إِنَّ إِسْرَافِيلَ قَدِ الْتَقَمَ الصُّورَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ، يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤمَر فَيَنْفُخُ".(١٢)وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَسْلَمَ العِجْلي، عَنْ بِشْر بْنِ شَغَاف، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الصُّورُ؟ قَالَ: "قَرْنٌ ينفخ فِيهِ.(١٣)وَقَدْ رُوِّينَا حَدِيثَ الصُّورِ بِطُولِهِ، مِنْ طَرِيقِ الْحَافِظِ أَبِي الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيِّ، فِي كِتَابِهِ "الطِّوَالَاتُ" قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمِصْرِيُّ الأيْلي، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ رَافِعٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَهُوَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، خَلَقَ الصُّورَ فَأَعْطَاهُ إِسْرَافِيلَ، فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلَى فِيهِ، شَاخِصًا بصرَه إِلَى الْعَرْشِ، يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الصُّورُ؟ قَالَ "القَرْن". قُلْتُ: كَيْفَ هُوَ؟ قَالَ: "عَظِيمٌ، وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، إِنَّ عَظْمَ دَارَةَ فِيهِ كَعَرْضِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. يُنْفَخُ فِيهِ ثَلَاثُ نَفَخَاتٍ: النَّفْخَةُ الْأُولَى نَفْخَةُ الْفَزَعِ، وَالثَّانِيَةُ نَفْخَةُ الصَّعْقِ، وَالثَّالِثَةُ نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. يَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى إِسْرَافِيلَ بِالنَّفْخَةِ الْأُولَى، فَيَقُولُ. انْفُخْ، فَيَنْفُخُ نَفْخَةَ الْفَزَعِ، فَيَفْزَعُ أهل السموات [وَأَهْلُ](١٤) الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ. وَيَأْمُرُهُ فَيُدِيمُهَا وَيُطِيلُهَا وَلَا يَفْتُرُ، وَهِيَ كَقَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ﴾ [ص: ١٥] ، فَيُسَيِّرُ اللَّهُ الْجِبَالَ(١٥) فَتَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، فَتَكُونُ سَرَابًا".ثُمَّ تَرْتَجُّ الْأَرْضُ بِأَهْلِهَا رَجَّةً فَتَكُونُ كَالسَّفِينَةِ الْمَرْمِيَّةِ(١٦) فِي الْبَحْرِ، تَضْرِبُهَا الْأَمْوَاجُ، تُكْفَأُ بِأَهْلِهَا كَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلَّقِ بِالْعَرْشِ، تُرَجْرِجُهُ(١٧) الرِّيَاحُ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ(١٨) ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ﴾ [النَّازِعَاتِ: ٦ -٨] ، فَيَميدُ النَّاسُ عَلَى ظَهْرِهَا، وَتُذْهَلُ الْمَرَاضِعُ، وَتَضَعُ الْحَوَامِلُ، وَتَشِيبُ الْوِلْدَانُ، وَتَطِيرُ الشَّيَاطِينُ هَارِبَةً مِنَ الْفَزَعِ، حَتَّى تَأْتِيَ الْأَقْطَارَ، فَتَأْتِيهَا الْمَلَائِكَةُ فَتَضْرِبُ وُجُوهَهَا، فَتَرْجِعُ، وَيُوَلِّي(١٩) النَّاسُ مُدْبِرِينَ مَا لَهُمْ مِنْ أمْر اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ، يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ التَّنَادِ﴾ [غَافِرٍ: ٣٢] .فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ تَصَدَّعَتِ(٢٠) الْأَرْضُ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، فَرَأَوْا أَمْرًا عَظِيمًا لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ، وَأَخَذَهُمْ لِذَلِكَ مِنَ الْكَرْبِ وَالْهَوْلِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ، ثُمَّ نَظَرُوا(٢١) إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا هِيَ كالمُهْل، ثُمَّ انْشَقَّتْ(٢٢) فَانْتَشَرَتْ نُجُومُهَا، وَانْخَسَفَ(٢٣) شَمْسُهَا وَقَمَرُهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "الْأَمْوَاتُ لَا يَعْلَمُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، حِينَ يَقُولُ: ﴿فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ [النَّمْلِ: ٨٧] ، قَالَ: "أُولَئِكَ الشُّهَدَاءُ، وَإِنَّمَا يَصِلُ الْفَزَعُ إِلَى الْأَحْيَاءِ، وَهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ اللَّهِ(٢٤) يُرْزَقُونَ، وَقَاهُمُ اللَّهُ فَزَعَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَآمَنَهُمْ مِنْهُ، وَهُوَ عَذَابُ اللَّهِ يَبْعَثُهُ عَلَى شِرَارِ خَلْقِهِ"، قَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج: ١، ٢] ، فَيَكُونُونَ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ مَا شَاءَ اللَّهُ، إِلَّا أَنَّهُ يَطُولُ.ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ بِنَفْخَةِ الصَّعْقِ، فَيَنْفُخُ نَفْخَةَ الصَّعْقِ، فَيَصْعَقُ أَهْلَ السموات [وأهل](٢٥) الأرض إلا من شاء الله، فَإِذَا هُمْ قَدْ خَمِدُوا، وَجَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى الْجَبَّارِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، قَدْ مَاتَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شِئْتَ. فَيَقُولُ اللَّهُ -وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ بَقِيَ -: فَمَنْ بَقِيَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، بقيتَ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا تَمُوتُ، وَبَقِيَتْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، وَبَقِيَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، وَبَقِيتُ أَنَا. فَيَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: لِيَمُتْ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ. فيُنْطِقُ اللَّهُ الْعَرْشَ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، يَمُوتُ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ!! فَيَقُولُ: اسْكُتْ، فَإِنِّي كَتَبْتُ الْمَوْتَ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ تَحْتَ عَرْشِي، فَيَمُوتَانِ. ثُمَّ يَأْتِي مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى الْجَبَّارِ [عَزَّ وَجَلَّ](٢٦) فَيَقُولُ يَا رَبِّ، قَدْ مَاتَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ. فَيَقُولُ اللَّهُ [عَزَّ وَجَلَّ](٢٧) -وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ بَقِيَ -: فَمَنْ تَبَقَّى؟ فَيَقُولُ: بَقِيتَ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا تَمُوتُ، وَبَقِيَتْ حَمْلَةُ عَرْشِكَ، وَبَقِيتُ أَنَا. فَيَقُولُ اللَّهُ، [عَزَّ وَجَلَّ](٢٨) لِيَمُتْ حَمْلَةُ عَرْشي. فَيَمُوتُوا، وَيَأْمُرُ اللَّهُ الْعَرْشَ. فَيَقْبِضُ الصُّورَ مِنْ إِسْرَافِيلَ، ثُمَّ يَأْتِي مَلَكُ الْمَوْتِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، قَدْ مَاتَ حَمَلَةُ عَرْشِكَ. فَيَقُولُ اللَّهُ -وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ بَقِيَ -:: فَمَنْ بَقِيَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، بَقِيتَ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا تَمُوتُ، وَبَقِيتُ أَنَا. فَيَقُولُ اللَّهُ [عَزَّ وَجَلَّ](٢٩) أَنْتَ خَلْق مِنْ خَلْقِي، خَلَقْتُكَ لِمَا رَأَيْتَ، فمِت. فَيَمُوتُ. فَإِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الْأَحَدُ [الصَّمَدُ](٣٠) الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، كَانَ آخِرًا كَمَا كَانَ أَوَّلًا طَوَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ طَيَّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ(٣١) ثُمَّ دَحَاهُمَا ثُمَّ يَلْقَفُهُمَا(٣٢) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْجَبَّارُ، أَنَا الْجَبَّارُ، أَنَا الْجَبَّارُ ثَلَاثًا. ثُمَّ هَتَفَ بِصَوْتِهِ: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَا يُجِيبُهُ أَحَدٌ، ثُمَّ يَقُولُ لِنَفْسِهِ: ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غَافِرٍ: ١٦] ، يَقُولُ اللَّهُ: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ(٣٣) الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ٤٨] ، فَيَبْسُطُهُمَا وَيَسْطَحُهُمَا، ثُمَّ يَمُدُّهُمَا مَدَّ الْأَدِيمِ الْعُكَاظِيِّ ﴿لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا﴾ [طَهَ: ١٠٧] .ثُمَّ يَزْجُرُ اللَّهُ الْخَلْقَ زَجْرَةً، فَإِذَا هُمْ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ الْمُبْدَّلَةِ مِثْلَ مَا كَانُوا فِيهَا مِنَ الْأُولَى، مَنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا كَانَ فِي بَطْنِهَا، وَمَنْ كَانَ عَلَى ظَهْرِهَا كَانَ عَلَى ظَهْرِهَا، ثُمَّ يُنَزِّلُ اللَّهُ [عَزَّ وَجَلَّ](٣٤) عَلَيْهِمْ مَاءً مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ، فَتُمْطِرُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، حَتَّى يَكُونَ الْمَاءُ فَوْقَهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ ذِرَاعًا، ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ الْأَجْسَادَ أَنْ تَنْبُتَ فَتَنْبُتُ كَنَبَاتِ الطَّرَاثِيثِ -أَوْ: كَنَبَاتِ الْبَقْلِ -حَتَّى إِذَا تَكَامَلَتْ أَجْسَادُهُمْ فَكَانَتْ كَمَا كَانَتْ، قَالَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: ليَحْيَا حملةُ عَرْشِي، فَيَحْيَوْنَ. وَيَأْمُرُ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ فَيَأْخُذُ الصُّورَ، فَيَضَعُهُ عَلَى فِيهِ، ثُمَّ يَقُولُ: لِيَحْيَا جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، فَيَحْيَانِ، ثُمَّ يدعو الله الأرواح(٣٥) فَيُؤْتَى بِهَا تَتَوَهَّجُ أَرْوَاحُ الْمُسْلِمِينَ نُورًا، وَأَرْوَاحُ الْكَافِرِينَ ظُلْمَةً، فَيَقْبِضُهَا جَمِيعًا ثُمَّ يُلْقِيهَا فِي الصُّورِ.ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ أَنْ يَنْفُخَ نَفْخَةَ الْبَعْثِ، فَيَنْفُخُ نَفْخَةَ الْبَعْثِ، فَتَخْرُجُ الْأَرْوَاحُ كَأَنَّهَا النَّحْلُ(٣٦) قَدْ مَلَأَتْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَيَقُولُ [اللَّهُ](٣٧) وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، لَيَرْجِعَنَّ كُلُّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهِ، فَتَدْخُلُ الْأَرْوَاحُ فِي الْأَرْضِ إِلَى الْأَجْسَادِ، فَتَدْخُلُ فِي الْخَيَاشِيمِ، ثُمَّ تَمْشِي فِي الْأَجْسَادِ كَمَا يَمْشِي السُّمُّ فِي اللَّدِيغِ، ثُمَّ تَنْشَقّ الْأَرْضُ عَنْكُمْ(٣٨) وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقّ الْأَرْضُ عَنْهُ، فَتَخْرُجُونَ سِرَاعًا إِلَى رَبِّكُمْ تَنْسِلُونَ(٣٩) ﴿مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾ [الْقَمَرِ: ٨] حَفَاة عُرَاة [غُلْفًا](٤٠) غُرْلا فَتَقِفُونَ(٤١) مَوْقِفًا وَاحِدًا مِقْدَارُهُ سَبْعُونَ(٤٢) عَامًا، لَا يُنْظَر إِلَيْكُمْ وَلَا يُقْضَى بَيْنَكُمْ، فَتَبْكُونَ حَتَّى تَنْقَطِعَ الدُّمُوعُ، ثُمَّ تَدْمَعُونَ(٤٣) دَمًا وتَعْرَقون حَتَّى يُلْجِمَكُمُ الْعَرَقُ، أَوْ يَبْلُغَ الْأَذْقَانَ، وَتَقُولُونَ(٤٤) مَنْ يَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّنَا فَيَقْضِي بَيْنَنَا؟ فَتَقُولُونَ(٤٥) مَنْ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ أَبِيكُمْ آدَمَ، خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَكَلَّمَهُ قُبُلًا؟ فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَطْلُبُونَ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَيَأْبَى، وَيَقُولُ: مَا أَنَا بِصَاحِبِ ذَلِكَ. فَيَسْتَقْرِءُونَ الْأَنْبِيَاءَ نَبِيًّا نَبِيًّا، كُلَّمَا جَاءُوا نَبِيًّا، أَبَى عَلَيْهِمْ". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "حَتَّى يَأْتُونِي، فَأَنْطَلِقُ إِلَى(٤٦) الْفَحْصِ فأَخر سَاجِدًا" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الفَحْص؟ قَالَ: "قُدَّامَ الْعَرْشِ حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ إِلَيَّ مَلَكًا فَيَأْخُذُ بِعَضُدِي، وَيَرْفَعُنِي، فَيَقُولُ لِي: يَا مُحَمَّدُ(٤٧) فَأَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ. فَيَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: مَا شَأْنُكَ؟ وَهُوَ أَعْلَمُ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، وَعَدْتَنِي الشَّفَاعَةَ فشَفعني فِي خَلْقِكَ، فَاقْضِ بَيْنَهُمْ. قَالَ [اللَّهُ](٤٨) قَدْ شَفَّعْتُكَ، أَنَا آتِيكُمْ أَقْضِي بَيْنَكُمْ".قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "فَأَرْجِعُ فَأَقِفُ مَعَ النَّاسِ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ وُقُوفٌ، إِذْ سَمِعْنَا حِسًّا مِنَ السَّمَاءِ شَدِيدًا، فَهَالَنَا فَنَزَلَ(٤٩) أَهْلُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِمِثْلَيْ مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنَ الْأَرْضِ، أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِهِمْ، وَأَخَذُوا مَصَافَّهُمْ، وَقُلْنَا لَهُمْ: أَفِيكُمْ رَبُّنَا؟ قَالُوا: لَا وَهُوَ آتٍ.ثُمَّ يَنْزِلُ [مِنْ](٥٠) أَهْلِ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ بِمِثْلَيْ مَنْ نَزَلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَبِمِثْلَيْ مَنْ فِيهَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنَ الْأَرْضِ، أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِهِمْ، وَأَخَذُوا مَصَافَّهُمْ، وَقُلْنَا لَهُمْ: أَفِيكُمْ رَبُّنَا؟ فَيَقُولُونَ: لَا وَهُوَ آتٍ.ثُمَّ يَنْزِلُونَ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّضْعِيفِ، حَتَّى يَنْزِلَ الْجَبَّارُ، عَزَّ وَجَلَّ، فِي ظُلل مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةِ، فَيَحْمِلُ عَرْشَهُ(٥١) يَوْمئِذٍ ثَمَانِيَةٌ -وَهُمُ الْيَوْمَ أربعة -أقدامهم في(٥٢) تخوم الأرض السفلى، وَالْأَرْضُ وَالسَّمَوَاتُ إِلَى حُجْزَتَهم(٥٣) وَالْعَرْشُ عَلَى مَنَاكِبِهِمْ، لَهُمْ زَجَلٌ فِي تَسْبِيحِهِمْ، يَقُولُونَ: سُبْحَانَ ذِي الْعَرْشِ وَالْجَبَرُوتِ، سُبْحَانَ ذِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، سُبْحَانَ الْحَيِّ الذِي لَا يَمُوتُ، سُبْحَانَ الذِي يُمِيتُ الْخَلَائِقَ وَلَا يَمُوتُ، سُبُّوح قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، سُبْحَانَ رَبِّنَا الْأَعْلَى، رَبِّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ، سُبْحَانَ رَبِّنَا الْأَعْلَى، الَّذِي يُمِيتُ الْخَلَائِقَ وَلَا يَمُوتُ، فَيَضَعُ اللَّهُ كُرْسِيَّهُ حَيْثُ يَشَاءُ مِنْ أَرْضِهِ، ثُمَّ يَهْتِفُ بِصَوْتِهِ(٥٤) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، إِنِّي قَدْ أَنْصَتُّ لَكُمْ مُنْذُ خَلَقْتُكُمْ إِلَى يَوْمِكُمْ هَذَا، أَسْمَعُ قَوْلَكُمْ وَأُبْصِرُ أَعْمَالَكُمْ، فَأَنْصِتُوا إِلَيَّ، فَإِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ وَصُحُفُكُمْ تُقْرَأُ عَلَيْكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمِنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ جَهَنَّمَ، فَيَخْرُجُ مِنْهَا عُنُقٌ [مُظْلِمٌ](٥٥) سَاطِعٌ، ثُمَّ يَقُولُ: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ -أَوْ: بِهَا(٥٦) تُكَذِّبُونَ -شَكَّ أَبُو عَاصِمٍ - ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ [يس: ٦٠ -٦٤] فَيُمَيِّزُ اللَّهُ النَّاسَ وَتَجْثُو الْأُمَمُ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الْجَاثِيَةِ: ٢٨] فَيَقْضِي اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، بَيْنَ خَلْقِهِ، إِلَّا الثَّقَلَيْنِ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ، فَيَقْضِي بَيْنَ الْوَحْشِ(٥٧) وَالْبَهَائِمِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقْضِي لِلْجَمَّاءِ مِنْ ذَاتِ الْقَرْنِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمْ تَبْقَ تَبِعَةٌ عِنْدَ وَاحِدَةٍ لِلْأُخْرَى قَالَ اللَّهُ [لَهَا](٥٨) كَوْنِي تُرَابًا. فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الْكَافِرُ: ﴿يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾ [النَّبَأِ: ٤٠]ثُمَّ يَقْضِي اللَّهُ [عَزَّ وَجَلَّ](٥٩) بَيْنَ الْعِبَادِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا يَقْضِي فِيهِ الدِّمَاءُ، وَيَأْتِي كُلُّ قَتِيلٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَيَأْمُرُ اللَّهُ [عَزَّ وَجَلَّ](٦٠) كُلَّ قتيل فيحمل رأسه تَشْخُب أو داجه يَقُولُ: يَا رَبِّ، فِيمَ قَتَلَنِي هَذَا؟ فَيَقُولُ -وَهُوَ أَعْلَمُ -: فِيمَ قَتَلْتَهُمْ؟ فَيَقُولُ: قَتَلْتُهُمْ لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لَكَ. فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: صَدَقْتَ. فَيَجْعَلُ اللَّهُ وَجْهَهُ مِثْلَ نُورِ الشَّمْسِ، ثُمَّ تَمُرُّ بِهِ الْمَلَائِكَةُ إِلَى الْجَنَّةِ.وَيَأْتِي كُلُّ مَنْ قُتل عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ يَحْمِلُ رَأْسَهُ وَتَشْخُبُ أَوْدَاجُهُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، [فِيمَ](٦١) قَتَلَنِي هَذَا؟ فَيَقُولُ -وَهُوَ أَعْلَمُ -: لِمَ قَتَلْتَهُمْ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، قَتَلْتُهُمْ لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لَكَ وَلِي. فَيَقُولُ: تَعِسْتَ. ثُمَّ لَا تَبْقَى نَفْسٌ قَتَلَهَا إِلَّا قُتِلَ بِهَا، وَلَا مَظْلَمَةٌ ظَلَمَهَا إِلَّا أُخِذَ بِهَا، وَكَانَ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ رَحِمَهُ.ثُمَّ يَقْضِي اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ مَنْ بَقِيَ(٦٢) مِنْ خَلْقِهِ حَتَّى لَا تَبْقَى مَظْلَمَةٌ لِأَحَدٍ عِنْدَ أَحَدٍ إِلَّا أَخَذَهَا [اللَّهُ](٦٣) لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيُكَلِّفُ شَائِبَ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ ثُمَّ يَبِيعُهُ أَنْ يخلص اللبن من الماء.فَإِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، نَادَ مُنَادٍ يُسْمِعُ الْخَلَائِقَ كُلَّهُمْ: أَلَا لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِآلِهَتِهِمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ عَبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَّا مُثِّلَتْ لَهُ آلِهَتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيُجْعَلُ يَوْمَئِذٍ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى صُورَةِ عُزَير، وَيُجْعَلُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى صُورَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. ثُمَّ يَتْبَعُ هَذَا الْيَهُودُ وَهَذَا النَّصَارَى، ثُمَّ قَادَتْهُمْ آلِهَتُهُمْ إِلَى النَّارِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ [تَعَالَى](٦٤) ﴿لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٩٩] .فَإِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ فِيهِمُ الْمُنَافِقُونَ، جَاءَهُمُ اللَّهُ فِيمَا شَاءَ مِنْ هَيْئَتِهِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ذَهَبَ النَّاسُ فَالْحَقُوا بِآلِهَتِكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. فَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ مَا لَنَا إِلَهٌ إِلَّا اللَّهُ، وَمَا كُنَّا نَعْبُدُ غَيْرَهُ، فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ، وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي يَأْتِيهِمْ فَيَمْكُثُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ يَأْتِيهِمْ فَيَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ذَهَبَ النَّاسُ فَالْحَقُوا بِآلِهَتِكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. فَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ مَا لَنَا إِلَهٌ إِلَّا اللَّهُ وَمَا كُنَّا نَعْبُدُ غَيْرَهُ، فَيَكْشِفُ لَهُمْ عَنْ سَاقِهِ، وَيَتَجَلَّى لَهُمْ مِنْ عَظَمَتِهِ مَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ رَبُّهُمْ، فَيَخِرُّونَ سُجَّدًا عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَيَخِرُّ كُلُّ مُنَافِقٍ عَلَى قَفَاهُ، وَيَجْعَلُ اللَّهُ أَصْلَابَهُمْ كَصَيَاصِي الْبَقَرِ. ثُمَّ يَأْذَنُ اللَّهُ لَهُمْ فَيَرْفَعُونَ، وَيَضْرِبُ اللَّهُ الصِّرَاطَ بَيْنَ ظَهَرَانَي جَهَنَّمَ كَحَدِّ الشَّفْرَةِ -أَوْ: كَحَدِّ السَّيْفِ -عَلَيْهِ كَلَالِيبُ وَخَطَاطِيفُ وَحَسَكٌ كَحَسَكِ السَّعْدَانِ، دُونَ جِسْرِ دَحْضٍ مَزَلَّةٍ، فَيَمُرُّونَ كَطَرْفٍ الْعَيْنِ، أَوْ كَلَمْحِ الْبَرْقِ، أَوْ كَمَرِّ الرِّيحِ، أَوْ كَجِيَادِ الْخَيْلِ، أَوْ كَجِيَادِ الرِّكَابِ، أَوْ كَجِيَادِ الرِّجَالِ. فَنَاجٍ سَالِمٌ، وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ، وَمُكَرْدَسٌ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَهَنَّمَ.فَإِذَا أَفْضَى أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ، قَالُوا: مَنْ يَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّنَا فَنَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ فَيَقُولُونَ: مَنْ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ أَبِيكُمْ آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَكَلَّمَهُ قُبُلًا؟ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَطْلُبُونَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَيَذْكُرُ ذَنْبًا وَيَقُولُ: مَا أَنَا بِصَاحِبِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِنُوحٍ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ رُسُلِ اللَّهِ. فَيُؤْتَى نُوحٌ فيُطْلَب ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَيَذْكُرُ ذَنْبًا وَيَقُولُ: مَا أَنَا بِصَاحِبِ ذَلِكَ، وَيَقُولُ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا. فَيُؤْتَى إِبْرَاهِيمُ، فيُطْلَب ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَيَذْكُرُ ذَنْبًا وَيَقُولُ: مَا أَنَا بِصَاحِبِ ذَلِكَ، وَيَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّ اللَّهَ قَرَّبَهُ نَجيّا، وَكَلَّمَهُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ. فَيُؤْتَى مُوسَى، فَيُطْلَبُ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَيَذْكُرُ ذَنْبًا وَيَقُولُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِرُوحِ اللَّهِ وَكَلِمَتِهِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ.فَيُؤْتَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، فَيُطْلَبُ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَيَقُولُ: مَا أَنَا بِصَاحِبِكُمْ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "فَيَأْتُونِي -وَلِي عِنْدَ رَبِّي ثَلَاثُ شَفَاعَاتٍ [وَعَدَنِهِنَّ](٦٥) -فَأَنْطَلِقُ فَآتِي الْجَنَّةَ، فَآخُذُ بحلَقَة الْبَابِ، فَأَسْتَفْتِحُ فَيُفْتَحُ لِي، فَأُحَيَّى وَيُرَحَّبُ بِي. فَإِذَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَنَظَرْتُ إِلَى رَبِّي خَرَرْتُ سَاجِدًا، فَيَأْذَنُ اللَّهُ لِي مِنْ حَمْدِهِ وَتَمْجِيدِهِ بِشَيْءٍ مَا أَذِنَ بِهِ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا مُحَمَّدُ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعَ، وَسَلْ تُعْطَهْ. فَإِذَا رَفَعْتُ رَأْسِي يَقُولُ اللَّهُ -وَهُوَ أَعْلَمُ -: مَا شَأْنُكَ؟ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، وَعَدْتَنِي الشَّفَاعَةَ، فَشَفِّعْنِي فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: قَدْ شَفَّعْتُكَ وَقَدْ أذنت لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ".وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ فِي الدُّنْيَا بِأَعْرَفَ بِأَزْوَاجِكُمْ وَمَسَاكِنِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَزْوَاجِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ، فَيَدْخُلُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً، سَبْعِينَ مِمَّا يُنْشِئُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَثِنْتَيْنِ آدَمِيَّتَيْنِ مَنْ وَلَدِ آدَمَ، لَهُمَا فَضْلٌ عَلَى مَنْ أَنْشَأَ اللَّهُ، لِعِبَادَتِهِمَا اللَّهَ فِي الدُّنْيَا. فَيَدْخُلُ عَلَى الْأُولَى فِي غُرْفَةٍ مِنْ يَاقُوتَةٍ، عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلٍ بِاللُّؤْلُؤِ، عَلَيْهَا سَبْعُونَ زَوْجًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ، ثُمَّ إِنَّهُ يَضَعُ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهَا، ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى يَدِهِ مِنْ صَدْرِهَا، وَمِنْ وَرَاءِ ثِيَابِهَا وَجِلْدِهَا وَلَحْمِهَا، وَإِنَّهُ لَيَنْظُرُ إِلَى مُخّ سَاقِهَا كَمَا يَنْظُرُ أَحَدُكُمْ إِلَى السِّلْكِ فِي قَصَبَةِ الْيَاقُوتِ، كَبِدُهَا لَهُ مِرْآةٌ، وَكَبِدُهُ لَهَا مِرْآةٌ. فَبَيْنَا هُوَ عِنْدَهَا لَا يَمَلُّهَا وَلَا تَمَلُّهُ، مَا يَأْتِيهَا مِنْ مَرَّةٍ إِلَّا وَجَدَهَا عَذْرَاءَ، مَا يَفْترُ ذَكَرَهُ، وَمَا تَشْتَكِي(٦٦) قُبُلَهَا. فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ نُودِيَ: إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا أَنَّكَ لَا تَمَلُّ وَلَا تُمَلُّ، إِلَّا أَنَّهُ لَا مَني وَلَا مَنِية إِلَّا أَنَّ لَكَ أَزْوَاجًا غَيْرَهَا. فَيَخْرُجُ فَيَأْتِيهِنَّ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، كُلَّمَا أَتَى(٦٧) وَاحِدَةً [لَهُ](٦٨) قَالَتْ: لَهُ وَاللَّهِ مَا أَرَى فِي الْجَنَّةِ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْكَ، وَلَا فِي الْجَنَّةِ شَيْءٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ.وَإِذَا وَقَعَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ، وَقْعَ فِيهَا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ رَبِّكَ أَوْبَقَتْهُمْ أَعْمَالُهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُ النَّارُ قَدَمَيْهِ لَا تُجَاوِزُ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى حِقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُ جَسَدَهُ كُلَّهُ، إِلَّا وَجْهَهُ حَرَّمَ اللَّهُ صُورَتَهُ عَلَيْهَا". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "فَأَقُولُ يَا رَبِّ، مَنْ وَقَعَ فِي النَّارِ مِنْ أُمَّتِي. فَيَقُولُ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ، فَيَخْرُجُ أُولَئِكَ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ. ثُمَّ يَأْذَنُ اللَّهُ فِي الشَّفَاعَةِ فَلَا يَبْقَى نَبِيٌّ وَلَا شَهِيدٌ إِلَّا شَفَعَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: أَخْرِجُوا مَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ زِنَةَ الدِّينَارِ إِيمَانًا. فَيَخْرُجُ أُولَئِكَ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ، ثُمَّ يُشَفِّعُ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَخْرِجُوا مَنْ [وَجَدْتُمْ](٦٩) فِي قَلْبِهِ إِيمَانًا ثُلُثَيْ دِينَارٍ. ثُمَّ يَقُولُ: ثُلُثَ دِينَارٍ. ثُمَّ يَقُولُ: رُبُعَ دِينَارٍ. ثُمَّ يَقُولُ: قِيرَاطًا. ثُمَّ يَقُولُ: حَبَّةً مِنْ خَرْدَلٍ. فَيَخْرُجُ أُولَئِكَ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَحَتَّى لَا يَبْقَى فِي النَّارِ مَنْ عَمِلَ لِلَّهِ خَيْرًا قَطُّ، وَلَا يَبْقَى أَحَدٌ لَهُ شَفَاعَةٌ إِلَّا شَفَعَ، حَتَّى إِنَّ إِبْلِيسَ لَيَتَطَاوَلُ مِمَّا يَرَى مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ رَجَاءَ أَنْ يُشْفَعَ لَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: بَقِيتُ وَأَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. فَيُدْخِلُ يَدَهُ فِي جَهَنَّمَ فَيُخْرِجُ مِنْهَا مَا لَا يُحْصِيهِ غَيْرُهُ، كَأَنَّهُمْ حُمَم، فَيُلْقَوْنَ عَلَى نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ: نَهْرُ الْحَيَوَانِ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ مَا يَلْقَى الشَّمْسَ مِنْهَا أُخَيْضِرُ، وَمَا يَلِي الظِّلَّ مِنْهَا أُصَيْفِرُ، فَيَنْبُتُونَ كَنَبَاتِ الطَّرَاثِيثِ، حَتَّى يَكُونُوا أَمْثَالَ الذَّرِّ، مَكْتُوبٌ فِي رِقَابِهِمْ: "الجُهَنَّمِيُّون عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ"، يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ بِذَلِكَ الْكِتَابِ، مَا عَمِلُوا خَيْرًا لِلَّهِ قَطُّ، فَيَمْكُثُونَ فِي الْجَنَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ، وَذَلِكَ الْكِتَابُ فِي رِقَابِهِمْ، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا امْحُ عَنَّا هَذَا الْكِتَابَ، فَيَمْحُوهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَنْهُمْ".هَذَا حَدِيثٌ [مَشْهُورٌ](٧٠) وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا، وَلِبَعْضِهِ شَوَاهِدُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَفَرِّقَةِ(٧١) وفي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ نَكَارَةٌ. تَفَرَّدَ بِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ رَافِعٍ قَاصُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ وَثَّقَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَعَّفَهُ، وَنَصَّ عَلَى نَكَارَةِ حَدِيثِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ، وَعَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الفَلاس، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِيهِ: هُوَ مَتْرُوكٌ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: أَحَادِيثُهُ كُلُّهَا فِيهَا نَظَرٌ إِلَّا أَنَّهُ يَكْتُبُ حَدِيثَهُ فِي جُمْلَةِ الضُّعَفَاءِ.قُلْتُ: وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، قَدْ أَفْرَدْتُهَا فِي جُزْءٍ عَلَى حِدَةٍ. وَأَمَّا سِيَاقُهُ، فَغَرِيبٌ جِدًّا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ جَمَعَهُ مِنْ أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، وَجَعَلَهُ سِيَاقًا وَاحِدًا، فَأُنْكِرَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَسَمِعْتُ شَيْخَنَا الْحَافِظَ أَبَا الْحَجَّاجِ الْمِزِّيَّ يَقُولُ: إِنَّهُ رَأَى لِلْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ مُصَنَّفًا قَدْ جَمَعَ فِيهِ كُلَّ الشَّوَاهِدِ لِبَعْضِ مُفْرَدَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(١) زيادة من أ.
(٢) في م: "استهوته سيرته".
(٣) في م، أ: "في هلكه".
(٤) في أ: "وحاد".
(٥) زيادة من أ.
(٦) في م، أ: "فإن".
(٧) في أ: "من يهده الله فلا مضل له".
(٨) في م، أ: "العبادة".
(٩) في أ: "كما تقول".
(١٠) في أ: "المدينة".
(١١) في م، أ: "والصواب من القول في ذلك ما".
(١٢) تفسير الطبري (١١/٤٦٣) .
(١٣) المسند (٢/١٩٢) .
(١٤) زيادة من أ.
(١٥) في م: "فتسير الجبال".
(١٦) في أ: "فتكون الموثقة".
(١٧) في م: "تزحزحه".
(١٨) في أ: "وهي الذي يقول الله".
(١٩) في أ: "ثم تولى".
(٢٠) في أ: "هم كذلك إذ تصدعت".
(٢١) في أ: "تطوى".
(٢٢) في أ: "انشقت السماء".
(٢٣) في أ: "وخسف".
(٢٤) في أ: "عند ربهم.
(٢٥) زيادة من م، أ.
(٢٦) زيادة من أ.
(٢٧) زيادة من أ.
(٢٨) زيادة من أ.
(٢٩) زيادة من أ.
(٣٠) زيادة من م، أ.
(٣١) في أ: "الكتاب".
(٣٢) في م: "تكففها".
(٣٣) في أ: "يبدل".
(٣٤) زيادة من أ.
(٣٥) في أ: "بالأرواح ".
(٣٦) في أ: "كالنحل".
(٣٧) زيادة من أ.
(٣٨) في أ: "عنهم".
(٣٩) في أ: "فيخرجون منها سراعا إلى ربهم ينسون".
(٤٠) زيادة من أ.
(٤١) في م: "يقفون".
(٤٢) في أ: " سبعين ".
(٤٣) في أ: "تدمون".
(٤٤) في أ: "ويقولون".
(٤٥) في أ: "فيقولون".
(٤٦) في أ: "حتى آتى".
(٤٧) في م: "محمد".
(٤٨) زيادة من أ.
(٤٩) في أ: "فينزل".
(٥٠) زيادة من م.
(٥١) في أ: "عرش ربك".
(٥٢) في م: "على".
(٥٣) في أ: "حجزهم".
(٥٤) في أ: "بصوته فيقول".
(٥٥) زيادة من أ.
(٥٦) في م: "وبها".
(٥٧) في أ: "الوحوش".
(٥٨) زيادة من أ.
(٥٩) زيادة من أ.
(٦٠) زيادة من أ.
(٦١) زيادة من أ.
(٦٢) في م: "من شاء".
(٦٣) زيادة من أ.
(٦٤) زيادة من أ.
(٦٥) زيادة من م.
(٦٦) في م: "ولا يشتكي".
(٦٧) في م: "جاءت".
(٦٨) زيادة من م.
(٦٩) زيادة من م.
(٧٠) زيادة من م، أ.
(٧١) الأحاديث الطوال للطبراني برقم (٣٦) وقد خولف فيه أحمد بن الحسن الأيلي، فرواه أبو الشيخ الأصبهاني في العظمة برقم (٣٨٧) من طريق إسحاق بن راهوية، والبيهقي في البعث والنشور برقم (٦٦٩) من طريق أبي قلابة الرقاشي كلاهما إسحاق- وأبو قلابة - من طريق أبي عاصم الضحاك، عن إسماعيل بن رافع، عن محمد بن أبي زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ رَجُلٍ من الأنصار، عن أبي هريرة. به، وروى من طريق أخرى مدارها على إسماعيل بن رافع المدني، وقد ضعفه الأئمة وتركه الدارقطني.
وقال ابن عدي: "أحاديثه كلها مما فيه نظر".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الاثنين، 9 يناير 2023

من سورة الروم

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٣٨_٤٠ 
من سورة الروم 
﴿فَـَٔاتِ ذَا ٱلۡقُرۡبَىٰ حَقَّهُۥ وَٱلۡمِسۡكِینَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِیلِۚ ذَ ٰ⁠لِكَ خَیۡرࣱ لِّلَّذِینَ یُرِیدُونَ وَجۡهَ ٱللَّهِۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ (٣٨) وَمَاۤ ءَاتَیۡتُم مِّن رِّبࣰا لِّیَرۡبُوَا۟ فِیۤ أَمۡوَ ٰ⁠لِ ٱلنَّاسِ فَلَا یَرۡبُوا۟ عِندَ ٱللَّهِۖ وَمَاۤ ءَاتَیۡتُم مِّن زَكَوٰةࣲ تُرِیدُونَ وَجۡهَ ٱللَّهِ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُضۡعِفُونَ (٣٩) ٱللَّهُ ٱلَّذِی خَلَقَكُمۡ ثُمَّ رَزَقَكُمۡ ثُمَّ یُمِیتُكُمۡ ثُمَّ یُحۡیِیكُمۡۖ هَلۡ مِن شُرَكَاۤىِٕكُم مَّن یَفۡعَلُ مِن ذَ ٰ⁠لِكُم مِّن شَیۡءࣲۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا یُشۡرِكُونَ (٤٠)﴾ [الروم ٣٨-٤٠]

يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا بِإِعْطَاءِ ذِي ﴿الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ أَيْ: مِنَ الْبَرِّ وَالصِّلَةِ، ﴿وَالْمِسْكِينَ﴾ وَهُوَ: الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، أَوْ لَهُ شَيْءٌ لَا يَقُومُ بِكِفَايَتِهِ، ﴿وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ وَهُوَ الْمُسَافِرُ الْمُحْتَاجُ إِلَى نَفَقَةٍ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي سَفَرِهِ، ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ﴾ أَيِ: النَّظَرُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى، ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ أَيْ: فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ(١) .ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ﴾ أَيْ: مَنْ أَعْطَى عَطِيَّةً يُرِيدُ أَنْ يَرُدَّ النَّاسُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَهْدَى لَهُمْ، فَهَذَا لَا ثَوَابَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ -بِهَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَالشَّعْبِيُّ -وَهَذَا الصَّنِيعُ مُبَاحٌ(٢) وَإِنْ كَانَ لَا ثَوَابَ فِيهِ(٣) إِلَّا أَنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَاصَّةً، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ [الْمُدَّثِّرِ: ٦] أَيْ: لَا تُعْطِ الْعَطَاءَ تُرِيدُ أَكْثَرَ مِنْهُ.وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرِّبَا رِبَاءَانِ، فَرِبًا لَا يَصْحُ(٤) يَعْنِي: رِبَا الْبَيْعِ؟ وَرِبًا لَا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ هَدِيَّةُ الرَّجُلِ يُرِيدُ فَضْلَهَا(٥) وَأَضْعَافَهَا. ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ﴾ .وَإِنَّمَا الثَّوَابُ عِنْدَ اللَّهِ فِي الزَّكَاةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ أَيِ: الَّذِينَ يُضَاعِفُ اللَّهُ لَهُمُ الثَّوَابَ وَالْجَزَاءَ، كَمَا [جَاءَ](٦) فِي الصَّحِيحِ: "وَمَا تَصْدَّقَ أَحَدٌ بِعَدْل تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ إِلَّا أَخْذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ، فَيُرَبِّيها لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوّه أَوْ فَصِيلَه، حَتَّى تَصِيرَ التَّمْرَةُ أَعْظَمَ مِنْ أُحُد"(٧) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ﴾ أَيْ: هُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ(٨) يُخْرِجُ الْإِنْسَانَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ عُرْيَانًا لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا سَمْعَ وَلَا بَصَرَ وَلَا قُوَى، ثُمَّ يَرْزُقُهُ جَمِيعَ ذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالرِّيَاشَ وَاللِّبَاسَ وَالْمَالَ وَالْأَمْلَاكَ وَالْمَكَاسِبَ، كَمَا قَالَ(٩) الْإِمَامُ أَحْمَدُ:حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ سَلَّامٍ أَبِي شُرَحْبِيلَ، عَنْ حَبَّة وَسَوَاءٍ ابْنِي خَالِدٍ قَالَا دَخْلَنَا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ يُصْلِحُ شَيْئًا فأعَنَّاه، فَقَالَ: "لَا تَيْأَسَا مِنَ الرزق ما تَهَزّزَتْ رؤوسكما؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ تَلِدُهُ أُمُّهُ أَحْمَرَ لَيْسَ عَلَيْهِ قِشْرَةٌ، ثُمَّ يَرْزُقُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ"(١٠) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ ، أَيْ: بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ﴾ أَيِ: الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ. ﴿مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ أَيْ: لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بَلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ، وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، ثُمَّ يَبْعَثُ الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أَيْ: تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ وَتَعَاظَمَ وَجَلَّ وعَزّ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ أَوْ نَظِيرٌ أَوْ مساوٍ، أَوْ وَلَدٌ أَوْ وَالِدٌ، بَلْ هُوَ الْأَحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ.

(١) في ت، ف: "الأخرى".
(٢) في ت: "فسره ابن عباس وغيره".
(٣) في ت: "به".
(٤) في أ: "لا يصلح".
(٥) في أ: "أفضلها".
(٦) زيادة من أ.
(٧) صحيح البخاري برقم (١٤١٠) .
(٨) في أ: "الرزاق".
(٩) في ت: "كما روى".
(١٠) المسند (٣/٤٦٩) .

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

السبت، 7 يناير 2023

من سورة الأنعام

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٦٣_٦٥ 
من سورة الأنعام 
﴿قُلۡ مَن یُنَجِّیكُم مِّن ظُلُمَـٰتِ ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ تَدۡعُونَهُۥ تَضَرُّعࣰا وَخُفۡیَةࣰ لَّىِٕنۡ أَنجَىٰنَا مِنۡ هَـٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِینَ (٦٣) قُلِ ٱللَّهُ یُنَجِّیكُم مِّنۡهَا وَمِن كُلِّ كَرۡبࣲ ثُمَّ أَنتُمۡ تُشۡرِكُونَ (٦٤) قُلۡ هُوَ ٱلۡقَادِرُ عَلَىٰۤ أَن یَبۡعَثَ عَلَیۡكُمۡ عَذَابࣰا مِّن فَوۡقِكُمۡ أَوۡ مِن تَحۡتِ أَرۡجُلِكُمۡ أَوۡ یَلۡبِسَكُمۡ شِیَعࣰا وَیُذِیقَ بَعۡضَكُم بَأۡسَ بَعۡضٍۗ ٱنظُرۡ كَیۡفَ نُصَرِّفُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لَعَلَّهُمۡ یَفۡقَهُونَ (٦٥)﴾ [الأنعام ٦٣-٦٥]

يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ فِي إِنْجَائِهِ الْمُضْطَرِّينَ مِنْهُمْ ﴿مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ أَيِ: الْحَائِرِينَ الْوَاقِعِينَ فِي الْمَهَامِهِ الْبَرِّيَّةِ، وَفِي اللُّجُجِ الْبَحْرِيَّةِ إِذَا هَاجَتِ الرِّيحُ(١) الْعَاصِفَةُ، فَحِينَئِذٍ يُفْرِدُونَ الدُّعَاءَ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ [فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا] ﴾(٢) [الْإِسْرَاءِ: ٦٧] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾(٣) [يُونُسَ: ٢٢] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [النَّمْلِ: ٦٣] .وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ أَيْ: جَهْرًا وَسِرًّا ﴿لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ﴾ أَيْ: مِنْ هَذِهِ الضَّائِقَةِ ﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ أَيْ: بَعْدَهَا، قَالَ اللَّهُ [تَعَالَى](٤) ﴿قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ﴾ أَيْ: بَعْدَ ذَلِكَ ﴿تُشْرِكُونَ﴾ أَيْ: تَدْعُونَ مَعَهُ فِي حَالِ الرَّفَاهِيَةِ آلهة أخرى.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ لَمَّا قَالَ: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ﴾ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا [مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ] ﴾(٥) أَيْ: بَعْدَ إِنْجَائِهِ إِيَّاكُمْ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ: ﴿رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا * أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٦٦ -٦٩] .قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذُكِرَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هَارُونُ الْأَعْوَرُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ قَالَ: هَذِهِ لِلْمُشْرِكِينَ.وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ [فِي قَوْلِهِ](٦) ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَعَفَا عَنْهُمْ.وَنَذْكُرُ هُنَا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ وَالْآثَارَ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانِ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَبِهِ الثِّقَةُ.قَالَ الْبُخَارِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ يَلْبِسَكُمْ: يَخْلِطَكُمْ، مِنَ الِالْتِبَاسِ، يَلْبِسوا: يَخْلطُوا. شِيَعًا: فِرَقًا.حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَعُوذُ بِوَجْهِكَ". ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ قَالَ: "أَعُوُذُ بِوَجْهِكَ". ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "هَذِهِ أَهْوَنُ -أَوْ قَالَ: هَذَا أَيْسَرُ".وَهَكَذَا رَوَاهُ أَيْضًا فِي "كِتَابِ التَّوْحِيدِ" عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ حَمَّادٍ، بِهِ(٧)وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ [أَيْضًا](٨) فِي "التَّفْسِيرِ"، عَنْ قُتَيْبَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ مُسَاوِرٍ، وَيَحْيَى بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ(٩) أَرْبَعَتُهُمْ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، بِهِ.وَقَدْ رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، سَمِعَ جَابِرًا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، بِهِ.وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي يَعْلَى الْمُوصِلِيِّ، عَنْ أَبِي خيثمة، عن سفيان بن عيينة، به.وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ الْقُرَشِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَسُفْيَانَ بْنِ وَكِيع، كُلُّهُمْ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، بِهِ.وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيه، مِنْ حَدِيثِ آدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ، وَيَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَعَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، بِهِ.وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، بِهِ(١٠)طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيه فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مقدام ابن دَاوُدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا بن لَهِيعَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ" ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ" ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا﴾ قَالَ: "هَذَا أَيْسَرُ"، وَلَوِ اسْتَعَاذَهُ لَأَعَاذَهُ(١١)وَيَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ [الْكَرِيمَةِ](١٢) أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ:أَحَدُهَا: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ -هُوَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ -عَنْ رَاشِدٍ -هُوَ ابْنُ سَعْدٍ الْمُقْرَئِيُّ -عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ](١٣) قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ فَقَالَ: "أَمَا إِنَّهَا كَائِنَةٌ، وَلَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ".وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، بِهِ(١٤) ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. [جِدًّا](١٥)حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْلَى -هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ -حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ عَامِرِ ابن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، حَتَّى مَرَرْنَا عَلَى مَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ، فَدَخَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَصَلَّيْنَا مَعَهُ، فَنَاجَى رَبَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، طَوِيلًا قَالَ(١٦) سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا "سَأَلْتُهُ أَلَّا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ، فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ، فَأَعْطَانِيهَا. وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ، فَمَنَعَنِيهَا".انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ، فَرَوَاهُ(١٧) فِي "كِتَابِ الْفِتَنِ" عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابن نُمَيْرٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ -وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ، عن مروان بن معاوية، كِلَاهُمَا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، بِهِ(١٨)حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: قَرَأْتُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِي بَنِي مُعَاوِيَةَ -قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى الْأَنْصَارِ -فَقَالَ لِي: هَلْ تَدْرِي(١٩) أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي مَسْجِدِكُمْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَأَشَرْتُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْهُ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا الثَّلَاثُ الَّتِي دَعَا بِهِنّ فِيهِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: وَأَخْبَرَنِي(٢٠) بِهِنَّ، فَقُلْتُ(٢١) دَعَا أَلَّا يُظْهِر عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَا يُهْلِكَهُمْ بِالسِّنِينَ، فَأُعْطِيْهِمَا، وَدَعَا بِأَنْ لَا يُجْعَلَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ، فَمُنِعَهَا. قَالَ: صَدَقْتَ، فَلَا يَزَالُ الْهَرْجُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"(٢٢)لَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حَكِيمٍ بْنِ عَبَّادٍ عَنْ حُنَيف(٢٣) عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَخْبَرَنِي حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَى حَرَّةِ بَنِي مُعَاوِيَةَ، قَالَ: فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، فَأَطَالَ فِيهِنَّ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: حَبَسْتُكَ؟ قَلْتُ(٢٤) اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: إِنِّي سَأَلْتُ اللَّهَ ثَلَاثًا، فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً. سَأَلْتُهُ أَلَّا يُسَلِّطَ عَلَى أُمَّتِي عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَعْطَانِي(٢٥) وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يُهْلِكَهُمْ بِغَرَقٍ، فَأَعْطَانِي. وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ، فَمَنَعَنِي".رَوَاهُ ابْنُ مَرْدُوَيه مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ(٢٦)حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عُبَيْدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ، عَنْ رَجَاءٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَطْلُبُهُ فَقِيلَ لِي: خَرَجَ قَبْلُ. قَالَ: فَجَعَلْتُ لَا أَمُرُّ بِأَحَدٍ إِلَّا قَالَ: مَرَّ قَبْلُ. حَتَّى مَرَرْتُ فَوَجَدْتُهُ قَائِمًا يُصَلِّي. قَالَ: فَجِئْتُ حَتَّى قُمْتُ خَلْفَهُ، قَالَ: فَأَطَالَ الصَّلَاةَ، فَلَمَّا قَضَى صلاته(٢٧) قلت: يا رسول الله، لقد صليت صَلَاةً طَوِيلَةً؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنِّي صَلَّيْتُ صَلَاةَ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ، سَأَلْتُ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ، وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً. سَأَلْتُهُ أَلَّا يُهْلِكَ أُمَّتِي غَرَقًا، فَأَعْطَانِي(٢٨) وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يُظْهِر عَلَيْهِمْ عَدُوًّا لَيْسَ مِنْهُمْ، فَأَعْطَانِيهَا. وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ، فَرَدَّهَا عَلَيَّ".وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي "الْفِتَنِ" عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَعَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عن الأعمش، به(٢٩) وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدُوَيه مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَوَانة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ(٣٠) بْنِ عُمَيْر، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، بِمِثْلِهِ أَوْ نَحْوَهُ.حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْب، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْر(٣١) بْنِ الْأَشَجِّ، أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيَّ حَدَّثَهُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي سَفَرٍ صَلَّى سُبْحَة الضُّحَى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ. فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "إِنِّي صَلَّيْتُ صَلَاةَ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ، سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً: سَأَلْتُهُ أَلَّا يَبْتَلِيَ أُمَّتِي بِالسِّنِينَ، فَفَعَلَ. وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يُظْهِرَ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ، فَفَعَلَ. وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَلْبِسَهُم شِيَعًا، فَأَبَى عَلَيَّ".رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الصَّلَاةِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، بِهِ.(٣٢)حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِيهِ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ -مَوْلَى بَنِي زُهْرَةَ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ -أَنَّهُ قَالَ: رَاقَبْتُ(٣٣) رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي لَيْلَةٍ صَلَّاهَا كُلَّهَا، حَتَّى كَانَ مَعَ الْفَجْرِ فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ صِلَاتِهِ، قُلْتُ(٣٤) يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ صَلَّيْتَ اللَّيْلَةَ صَلَاةً مَا رَأَيْتُكَ صَلَّيْتَ مِثْلَهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَجَلْ، إِنَّهَا صَلَاةُ رَغَب ورَهَب. سَأَلْتُ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، فِيهَا ثَلَاثَ خِصَالٍ، فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً: سَأَلْتُ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، أَلَّا يُهْلِكَنَا بِمَا أَهْلَكَ بِهِ الْأُمَمَ قَبْلَنَا، فَأَعْطَانِيهَا. وَسَأَلْتُ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، أَلَّا يُظْهِرَ عَلَيْنَا عَدُوًّا مِنْ غَيْرِنَا، فَأَعْطَانِيهَا. وَسَأَلْتُ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، أَلَّا يَلْبِسَنَا شِيَعًا، فَمَنَعَنِيهَا".وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، بِهِ(٣٥) وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، بِإِسْنَادَيْهِمَا عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ -وَالتِّرْمِذِيُّ فِي "الْفِتَنِ" مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ -كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهِ(٣٦) وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ(٣٧) الْمُزَنِيُّ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ، حَدَّثَنِي نَافِعُ بْنُ خَالِدٍ الْخُزَاعِيُّ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى صَلَاةً خَفِيفَةً تَامَّةَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَقَالَ: "قَدْ كَانَتْ صَلَاةَ رَغْبَة ورَهْبَة، سَأَلْتُ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، فِيهَا ثَلَاثًا، أَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً. سَأَلْتُ اللَّهَ أَلَّا يُصِيبَكُمْ بِعَذَابٍ أَصَابَ بِهِ مَنْ قَبْلَكُمْ، فَأَعْطَانِيهَا. وَسَأَلْتُ اللَّهَ أَلَّا يُسَلِّطَ عَلَيْكُمْ عَدُوًّا يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَكُمْ، فَأَعْطَانِيهَا. وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَمَنَعَنِيهَا". قَالَ أَبُو مَالِكٍ: فَقُلْتُ لَهُ: أَبُوكَ سَمِعَ هَذَا مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم؟ فَقَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ بِهَا الْقَوْمَ أَنَّهُ سَمِعَهَا مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ(٣٨)حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: قَالَ مَعْمَر، أَخْبَرَنِي أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحْبي، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أوْس؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ حَتَّى رَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ مُلْك أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مَا زُوي لِي مِنْهَا، وَإِنِّي أُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَبْيَضَ وَالْأَحْمَرَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، أَلَّا يُهْلِكَ أُمَّتِي بسنَة بِعَامَّةٍ وَأَلَّا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا فَيُهْلِكَهُمْ بِعَامَّةٍ، وَأَلَّا يلبسهم شيعا، وألا يذيق بعضهم بأس بعض. فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ. وَإِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ ألا أهلكتهم(٣٩) بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ، وَأَلَّا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِمَّنْ سِوَاهُمْ فَيُهْلِكَهُمْ بِعَامَّةٍ، حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَبَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا، وَبَعْضُهُمْ يَسْبِي بَعْضًا". قَالَ: وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ "وَإِنِّي لَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي إِلَّا الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ، فَإِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِي أُمَّتِي، لَمْ يُرْفَعْ عَنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"(٤٠)لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَإِسْنَادُهُ(٤١) جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدُوَيه مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ ابن زَيْدٍ، وَعَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَقَتَادَةَ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ، عَنْ ثَوْبان، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِنَحْوِهِ(٤٢) فَاللَّهُ أَعْلَمُ(٤٣)حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيه: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْهَاشِمِيُّ وَمَيْمُونُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ الْحَسَنِ الْحَنَفِيُّ قَالَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ نَافِعِ بْنِ خَالِدٍ الْخُزَاعِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ -وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ(٤٤) ﷺ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ -: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا صَلَّى وَالنَّاسُ حَوْلَهُ، صَلَّى صَلَاةً خَفِيفَةً تَامَّةَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. قَالَ: فَجَلَسَ يَوْمًا فَأَطَالَ الْجُلُوسَ حَتَّى أَوْمَأَ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ: أَنِ اسْكُتُوا، إِنَّهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لَهُ بَعْضُ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ أَطَلْتَ الْجُلُوسَ حَتَّى أَوْمَأَ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ: إِنَّهُ يَنْزِلُ عَلَيْكَ. قَالَ: "لَا وَلَكِنَّهَا كَانَتْ صَلَاةَ رَغْبة وَرَهْبَةٍ، سَأَلْتُ اللَّهَ فِيهَا ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ، وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً. سَأَلْتُ اللَّهَ أَلَّا يُعَذِّبَكُمْ بِعَذَابٍ عَذَّبَ بِهِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَأَعْطَانِيهَا. أَلَّا يُسَلِّطَ(٤٥) عَلَى أُمَّتِي(٤٦) عَدُوًّا يَسْتَبِيحُهَا، فَأَعْطَانِيهَا. وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَلْبسَكم شِيعًا وَأَلَّا يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَمَنَعَنِيهَا"، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَبُوكَ سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّهُ سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عدد أصابعي هذه، عشر أصابع(٤٧) حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ -هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبُ -حَدَّثَنَا لَيْثٌ -هُوَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي وَهْبٍ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ رَجُلٍ قَدْ سَمَّاهُ، عَنْ أَبِي بَصْرَة الْغِفَارِيِّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سَأَلْتُ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، أَرْبَعًا فَأَعْطَانِي ثَلَاثًا، وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً. سَأَلْتُ اللَّهَ أَلَّا يَجْمَعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ، فَأَعْطَانِيهَا. وَسَأَلْتُ اللَّهَ أَلَّا يُظْهِرَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَعْطَانِيهَا. وَسَأَلْتُ اللَّهَ أَلَّا يُهْلِكَهُمْ بِالسِّنِينَ كَمَا أَهْلَكَ الْأُمَمَ قَبْلَهُمْ، فَأَعْطَانِيهَا. وَسَأَلْتُ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، أَلَّا يلبسهم شيعا وألا يذيق بعضهم بأس بعض، فَمَنَعَنِيهَا"(٤٨)لَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ.حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ الثَّعْلَبِيُّ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلاقة، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَة السَّوَائي، عَنْ عَلِيٍّ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ](٤٩) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثَ خِصَالٍ فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ، وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، لَا تُهْلِكْ أُمَّتِي جُوعًا فَقَالَ: هَذِهِ لَكَ. قُلْتُ: يَا رَبِّ، لَا تُسَلِّطْ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ -يَعْنِي أَهْلَ الشِّرْكِ -فَيَجْتَاحَهُمْ. قَالَ ذَلِكَ لَكَ(٥٠) قُلْتُ: يَا رَبِّ، لَا تَجْعَلْ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ". قَالَ: "فَمَنَعَنِي هَذِهِ"(٥١)حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيه: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَيْسَانَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "دَعَوْتُ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يَرْفَعَ عَنْ أُمَّتِي أَرْبَعًا، فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ اثْنَتَيْنِ، وَأَبَى عَلَيَّ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ اثْنَتَيْنِ. دَعَوْتُ رَبِّي أَنْ يَرْفَعَ الرَّجْمَ(٥٢) مِنَ السَّمَاءِ، وَالْغَرَقَ مِنَ الْأَرْضِ، وألا يلبسهم شيعا، وألا يذيق بعضهم بأس بَعْضٍ، فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ الرَّجْمَ مِنَ السَّمَاءِ، وَالْغَرَقَ مِنَ الْأَرْضِ، وَأَبَى اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَ اثْنَتَيْنِ: الْقَتْلَ، والهَرج".طَرِيقٌ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: قَالَ ابْنُ مَرْدُوَيه: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ(٥٣) حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُنِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَدْرٍ شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ قَالَ: فَقَامَ النَّبِيُّ ﷺ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ لَا تُرْسِلْ عَلَى أُمَّتِي عَذَابًا مِنْ فَوْقِهِمْ، وَلَا مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، وَلَا تَلْبِسْهُمْ شِيَعًا، وَلَا تُذِقْ(٥٤) بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ" قَالَ: فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ الله قد أجار أمتك أن يرسل عَلَيْهِمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِهِمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ(٥٥)حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ مَرْدُوَيه: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَزَّارُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ العَنْقَزِي، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّي، عَنْ أَبِي المِنْهَال، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَرْبَعَ خِصَالٍ، فَأَعْطَانِي ثَلَاثًا وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً. سَأَلْتُهُ أَلَّا تَكْفُرَ أُمَّتِي وَاحِدَةً، فَأَعْطَانِيهَا. وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ بِمَا عَذَّبَ بِهِ الْأُمَمَ قَبْلَهُمْ، فَأَعْطَانِيهَا. وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يُظْهِرَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَعْطَانِيهَا. وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ، فَمَنَعَنِيهَا".وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ القطَّان، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَنْقَزِيِّ، بِهِ نَحْوَهُ(٥٦)طَرِيقٌ أُخْرَى: وَقَالَ ابْنُ مَرْدُوَيه: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيب، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الحُباب، حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ الْمَدَنِيُّ، حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ رَبَاحٍ مَوْلَى آلِ أَبِي ذُبَاب، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا، فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً. سَأَلْتُهُ أَلَّا يُسَلِّطَ عَلَى أُمَّتِي عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ(٥٧) فَأَعْطَانِي. وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يُهْلِكَهُمْ بِالسِّنِينَ، فَأَعْطَانِي. وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَلْبِسَهُمْ(٥٨) شِيَعًا وَأَلَّا يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَمَنَعَنِي".ثُمَّ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدُوَيه بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، بِنَحْوِهِ. وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ(٥٩) بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِنَحْوِهِ(٦٠)أَثَرٌ آخَرُ: قَالَ سُفْيَانُ، الثَّوْرِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: أَرْبَعَةٌ مِنْ(٦١) هَذِهِ الْأُمَّةِ: قَدْ مَضَتْ ثِنْتَانِ، وَبَقِيَتْ ثِنْتَانِ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ قَالَ: الرَّجْمُ. ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ قَالَ: الْخَسْفُ. ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ قَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي: الرَّجْمَ وَالْخَسْفَ.وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ قَالَ: فَهِيَ أَرْبَعُ خِلَالٍ، مِنْهَا ثِنْتَانِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، أُلبِسوا شِيَعًا، وَذَاقَ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، وَبَقِيَتِ اثْنَتَانِ لَا بُدَّ مِنْهُمَا وَاقِعَتَانِ(٦٢) الرجم والخسف.وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ وَكِيع، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْمُنْذِرُ بْنُ شَاذَانَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْهَبِ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ [عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا] ﴾(٦٣) الْآيَةَ، قَالَ: حُبِسَتْ عُقُوبَتُهَا حَتَّى عُمِلَ ذَنْبُهَا، فَلَمَّا عُمِلَ ذَنْبُهَا أُرْسِلَتْ عُقُوبَتُهَا.وَهَكَذَا(٦٤) قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْر، وَأَبُو مَالِكٍ وَمُجَاهِدٌ، والسُّدِّي وَابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ يَعْنِي: الرَّجْمَ. ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ يَعْنِي: الْخَسْفَ. وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ.وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ وَهْب، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قوله: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ قَالَ: كَانَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ](٦٥) يَصِيحُ وَهُوَ فِي الْمَجْلِسِ -أَوْ عَلَى الْمِنْبَرِ -يَقُولُ: أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِكُمْ.إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ [أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ] ﴾(٦٦) لَوْ جَاءَكُمْ عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ، لَمْ يُبْقِ مِنْكُمْ أَحَدًا ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ لَوْ خَسَفَ(٦٧) بِكُمُ الْأَرْضَ أَهْلَكَكُمْ، لَمْ يُبْقِ مِنْكُمْ أَحَدًا ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ أَلَا إِنَّهُ نَزَلَ بِكُمْ أَسْوَأُ الثَّلَاثِ.قَوْلٌ ثَانٍ: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْب، سَمِعْتُ خَلَّادَ بْنَ سُلَيْمَانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَامِرَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ فَأَمَّا الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِكُمْ، فَأَئِمَّةُ السُّوءِ ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ فَخَدَمُ السُّوءَ.وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ يَعْنِي: أُمَرَاءَكُمْ. ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ يَعْنِي: عَبِيدَكُمْ وَسَفَلَتَكُمْ.وَحَكَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ وَعُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ، نَحْوَ ذَلِكَ.وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ وَأَقْوَى.وَهُوَ كَمَا قَالَ(٦٨) ابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَيَشْهَدُ لَهُ بِالصِّحَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ * [وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ](٦٩) ﴾ [الْمُلْكِ: ١٦ -١٨] ، وَفِي الْحَدِيثِ: "لِيَكُونَنَّ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَذْفٌ وخَسْفٌ ومَسْخٌ"(٧٠) وَذَلِكَ مَذْكُورٌ مَعَ نَظَائِرِهِ فِي أَمَارَاتِ الساعة وأشراطها وظهور الآيات قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَسَتَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا﴾ أَيْ: يَجْعَلَكُمْ مُلْتَبِسِينَ شِيَعًا فِرَقًا مُتَخَالِفِينَ. قَالَ الْوَالِبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي: الْأَهْوَاءَ وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً".
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: يَعْنِي يُسَلِّطُ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْعَذَابِ وَالْقَتْلِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ﴾ أَيْ: نُبَيِّنُهَا وَنُوَضِّحُهَا ونُقِرُّهَا(٧١) ﴿لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ أَيْ: يَفْهَمُونَ وَيَتَدَبَّرُونَ عَنِ اللَّهِ آيَاتِهِ وَحُجَجَهُ وَبَرَاهِينَهُ.قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: لَمَّا نَزَلَتْ ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ [أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ] ﴾(٧٢) الْآيَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقاب بَعْضٍ بِالسُّيُوفِ(٧٣) . قَالُوا: وَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: " نَعَمْ". فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يَكُونُ هَذَا أَبَدًا، أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُنَا بَعْضًا وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ، فَنَزَلَتْ: ﴿انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ(٧٤)

(١) في د: "الرياح".
(٢) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(٣) في م، أ: "مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ".
(٤) زيادة من م، أ.
(٥) زيادة من أ.
(٦) زيادة من أ.
(٧) صحيح البخاري برقمي (٤٦٢٨) ، (٧٤٠٦)
(٨) زيادة من أ.
(٩) في أ: "عدي".
(١٠) النسائي في السنن الكبرى برقم (١١١٦٤) ومسند الحميدي (٢/٥٣٠) ومسند أبي يعلى (٣/٣٦٢) وتفسير الطبري (١١/٤٢٢)
(١١) وفي إسناده عبد الله بن لهيعة وقد اختلط.
(١٢) زيادة من أ.
(١٣) زيادة من أ.
(١٤) المسند (١/١٧٠) وسنن الترمذي برقم (٣٠٦٦) .
(١٥) زيادة من أ.
(١٦) في أ: "ثم قال"
(١٧) في أ: "ورواه".
(١٨) المسند (١/١٧٥) وصحيح مسلم برقم (٢٨٩٠) .
(١٩) في أ: "ترى".
(٢٠) في م، أ: "قال: فأخبرني".
(٢١) في م: "فقال".
(٢٢) المسند (٥/٤٤٥) وقال الهيثمي في المجمع (٧/٢٢١) : "رجاله ثقات".
(٢٣) في أ: "عن خصيف".
(٢٤) في أ: "حسبك يا حذيفة فقلت".
(٢٥) في أ: "فأعطانيها".
(٢٦) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (١٠/٣١٨) من طريق عبد الله بن نمير عن محمد بن إسحاق به.
(٢٧) في جـ: "الصلاة".
(٢٨) في أ: "فأعطانيها".
(٢٩) المسند (٥/٢٤٠) وسنن ابن ماجه برقم (٣٩٥١) .
(٣٠) في م: "عبد الملك".
(٣١) في أ: "بكر".
(٣٢) المسند (٢/١٤٦) .
(٣٣) في م: "وافيت".
(٣٤) في أ: "فقلت"
(٣٥) المسند (٥/١٠٨) وسنن النسائي (٣/٢١٦) .
(٣٦) النسائي في السنن الكبرى كما في تحفة الأشراف (٣/١١٥) وصحيح ابن حبان (٩/١٨٠) "الإحسان"، وسنن الترمذي برقم (٢١٧٥)
(٣٧) في أ: "عبد الله".
(٣٨) تفسير الطبري (١١/٤٣٣) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (٤/١٩٢) والبزار في مسنده برقم (٣٢٨٩) "كشف الأستار" من طريق مروان بن معاوية به.
(٣٩) في م، أ: "يهلكهم".
(٤٠) المسند (٤/١٢٣) وقال الهيثمي في المجمع (٧/٢٢١) : "رجال أحمد رجال الصحيح"
(٤١) في أ: "وإسناد".
(٤٢) ورواه مسلم في صحيحه برقم (٢٨٨٩) من طريق حماد بن زيد به ورواه من طريق معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن أبي قلابة به ولم يذكر أيوب.
(٤٣) في أ: "والله أعلم".
(٤٤) في م، أ: "النبي".
(٤٥) في م، أ: "فأعطانيها، وسألته ألا يسلط".
(٤٦) في م: "عامتكم".
(٤٧) ورواه البزار في مسنده برقم (٣٢٨٩) "كشف الأستار" والطبراني في المعجم الكبير (٤/١٩٢) من طريق أبي مالك الأشجعي عن نافع عن أبيه به.
(٤٨) المسند (٦/٣٩٦) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (٢/٢٨٠) من طريق الليث به.
تنبيه: وقع في المسند كما هو هنا: "أبو وهب الخولاني" وفي المعجم الكبير للطبراني: "أبو هانئ الخولاني" وهو الصحيح، كما ذكره المزى في تهذيب الكمال (٧/٤٠١) وابن عبد البر في الاستغناء (٢/٩٧٦) .
(٤٩) زيادة من أ.
(٥٠) في م: "لك ذلك".
(٥١) المعجم الكبير للطبراني (١/١٠٧) وقال الهيثمي في المجمع (٧/٢٢٢) : " فيه أبو حذيفة الثعلبي ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات".
(٥٢) في م، أ: "يرفع عنهم الرجم".
(٥٣) في أ: "يزيد".
(٥٤) في أ: "لا تذيق" وهو خطأ.
(٥٥) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (١١/٣٧٤) من طريق أبي الدرداء المروزي به، وفي إسناده من لم أعرفهم.
(٥٦) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٤٣٣٦) "مجمع البحرين" من طريق القطيعي عن عمرو بن محمد العنقزي به. قال الهيثمي في المجمع (٧/٢٢٢) : "رجاله ثقات".
(٥٧) في أ: " من غيرهم فأعطاني".
(٥٨) في م: "يلبسها".
(٥٩) في أ: "عمرو".
(٦٠) مسند البزار برقم (٣٢٩٠) "كشف الأستار".
(٦١) في أ: "في".
(٦٢) في أ: "وقفتان".
(٦٣) زيادة من م، أ.
(٦٤) في أ: "وكذا".
(٦٥) زيادة من أ.
(٦٦) زيادة من أ.
(٦٧) في م، أ: "يخسف".
(٦٨) في أ: "قاله".
(٦٩) زيادة من م، أ.
(٧٠) رواه أحمد في مسنده (٢/١٦٣) من حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(٧١) في أ: "ونفسرها".
(٧٢) زيادة من أ.
(٧٣) في أ: بالسيف".
(٧٤) تفسير الطبري (١١/٤٣٠) .

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))