الثلاثاء، 30 مايو 2023

من سورة الحديد

 ﴿ثُمَّ قَفَّیۡنَا عَلَىٰۤ ءَاثَـٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّیۡنَا بِعِیسَى ٱبۡنِ مَرۡیَمَ وَءَاتَیۡنَـٰهُ ٱلۡإِنجِیلَۖ وَجَعَلۡنَا فِی قُلُوبِ ٱلَّذِینَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةࣰ وَرَحۡمَةࣰۚ وَرَهۡبَانِیَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَـٰهَا عَلَیۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَاۤءَ رِضۡوَ ٰ⁠نِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَایَتِهَاۖ فَـَٔاتَیۡنَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِیرࣱ مِّنۡهُمۡ فَـٰسِقُونَ﴾ [الحديد ٢٧]


فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ قَفَّيْنا﴾ أَيْ أَتْبَعْنَا (عَلى آثارِهِمْ) أَيْ عَلَى آثَارِ الذُّرِّيَّةِ. وَقِيلَ: عَلَى آثَارِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ (بِرُسُلِنا) مُوسَى وَإِلْيَاسَ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَيُونُسَ وَغَيْرِهِمْ (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) فَهُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) وَهُوَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ اشْتِقَاقُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ (آلِ عِمْرَانَ)(١). الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ عَلَى دِينِهِ يَعْنِي الْحَوَارِيِّينَ وَأَتْبَاعَهُمْ (رَأْفَةً وَرَحْمَةً) أَيْ مَوَدَّةً فَكَانَ يُوَادُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقِيلَ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ أُمِرُوا فِي الْإِنْجِيلِ بِالصُّلْحِ وَتَرْكِ إِيذَاءِ النَّاسِ وَأَلَانَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِذَلِكَ، بِخِلَافِ الْيَهُودِ الَّذِينَ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَالرَّأْفَةُ اللِّينُ، وَالرَّحْمَةُ الشَّفَقَةُ. وَقِيلَ: الرَّأْفَةُ تَخْفِيفُ الْكَلِّ، وَالرَّحْمَةُ تَحْمُّلُ الثِّقَلِ. وَقِيلَ: الرَّأْفَةُ أَشَدُّ الرَّحْمَةِ. وَتَمَّ الْكَلَامُ. ثم قال: (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) أَيْ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ الرَّهْبَانِيَّةُ مَنْصُوبَةً بِإِضْمَارِ فَعْلٍ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَابْتَدَعُوهَا رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيِ ابْتَدَعُوهَا رَهْبَانِيَّةً، كَمَا تَقُولُ رَأَيْتُ زَيْدًا وَعُمَرًا كَلَّمْتُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَاهُمْ إِيَّاهَا فَغَيَّرُوا وَابْتَدَعُوا فِيهَا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَفِيهَا قِرَاءَتَانِ، إِحْدَاهُمَا بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهِيَ الْخَوْفُ مِنَ الرَّهَبِ. الثَّانِيَةُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَهِيَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى الرُّهْبَانِ كَالرُّضْوَانِيَّةِ مِنَ الرُّضْوَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ حَمَلُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْمَشَقَّاتِ فِي الِامْتِنَاعِ مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالنِّكَاحِ وَالتَّعَلُّقِ بِالْكُهُوفِ وَالصَّوَامِعِ، وَذَلِكَ أَنَّ مُلُوكَهُمْ غَيَّرُوا وَبَدَّلُوا وَبَقِيَ نَفَرٌ قَلِيلٌ فَتَرَهَّبُوا وَتَبَتَّلُوا. قَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّ مُلُوكًا بَعْدَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ارْتَكَبُوا الْمَحَارِمَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ، فَأَنْكَرَهَا عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ بَقِيَ عَلَى مِنْهَاجِ عِيسَى فَقَتَلُوهُمْ، فَقَالَ قَوْمٌ بَقُوا بَعْدَهُمْ: نَحْنُ إِذَا نَهَيْنَاهُمْ قَتَلُونَا فَلَيْسَ يَسَعُنَا الْمَقَامُ بَيْنَهُمْ، فَاعْتَزَلُوا النَّاسَ وَاتَّخَذُوا الصَّوَامِعَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الرَّهْبَانِيَّةُ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا رَفْضُ النِّسَاءِ وَاتِّخَاذِ الصَّوَامِعِ. وَفِي خَبَرٍ مَرْفُوعٍ: (هِيَ لُحُوقُهُمْ بِالْبَرَارِيِّ وَالْجِبَالِ).(مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) أَيْ مَا فَرَضْنَاهَا عَلَيْهِمْ وَلَا أَمَرْنَاهُمْ بِهَا، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ﴾ أَيْ مَا أَمَرْنَاهُمْ إِلَّا بِمَا يُرْضِي اللَّهَ، قَالَهُ ابْنُ مُسْلِمٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: (مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) مَعْنَاهُ لَمْ نَكْتُبْ عَلَيْهِمْ شَيْئًا الْبَتَّةَ. وَيَكُونُ (ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ) بَدَلًا مِنَ الْهَاءِ وَالْأَلِفِ فِي (كَتَبْناها) وَالْمَعْنَى: مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ الله. وقيل: (إِلَّا ابْتِغاءَ) الاستثناء مُنْقَطِعٌ، وَالتَّقْدِيرُ مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ لَكِنِ ابْتَدَعُوهَا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ.(فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) أَيْ فَمَا قَامُوا بِهَا حَقَّ الْقِيَامِ. وَهَذَا خُصُوصٌ، لِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَرْعَوْهَا بَعْضُ الْقَوْمِ، وَإِنَّمَا تَسَبَّبُوا بِالتَّرَهُّبِ إِلَى طَلَبِ الرِّيَاسَةِ عَلَى النَّاسِ وَأَكْلِ أَمْوَالِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ(٢) اللَّهِ) وَهَذَا فِي قَوْمٍ أَدَّاهُمُ التَّرَهُّبُ إِلَى طَلَبِ الرِّيَاسَةِ فِي آخِرِ الْأَمْرِ. وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) قَالَ: كَانَتْ مُلُوكٌ بعد عيسى بدلوا التوراة والإنجيل، وَكَانَ فِيهِمْ مُؤْمِنُونَ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإَنْجِيلَ وَيَدْعُونَ إِلَى دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ أُنَاسٌ لِمَلِكِهِمْ: لَوْ قَتَلْتَ هَذِهِ الطَّائِفَةَ. فَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ: نَحْنُ نَكْفِيكُمْ أَنْفُسَنَا. فَطَائِفَةٌ قَالَتْ: ابْنُوا لَنَا أُسْطُوَانَةً ارْفَعُونَا فِيهَا، وَأَعْطَوْنَا شَيْئًا نَرْفَعُ بِهِ طَعَامَنَا وَشَرَابَنَا وَلَا نَرُدُّ عَلَيْكُمْ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: دَعُونَا نَهِيمُ فِي الْأَرْضِ وَنَسِيحُ، وَنَشْرَبُ كَمَا تَشْرَبُ الْوُحُوشُ فِي الْبَرِيَّةِ، فَإِذَا قَدَرْتُمْ عَلَيْنَا فَاقْتُلُونَا. وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: ابْنُوا لَنَا دُورًا فِي الْفَيَافِي ونحتفر الْآبَارَ وَنَحْتَرِثُ الْبُقُولَ فَلَا تَرَوْنَنَا. وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَّا وَلَهُ حَمِيمٌ مِنْهُمْ فَفَعَلُوا، فَمَضَى أُولَئِكَ عَلَى مِنْهَاجِ عِيسَى، وَخَلَفَ قَوْمٌ مِنْ بَعْدِهِمْ مِمَّنْ قَدْ غَيَّرَ الْكِتَابَ فَقَالُوا: نَسِيحُ وَنَتَعَبَّدُ كَمَا تَعَبَّدَ أُولَئِكَ، وَهُمْ عَلَى شِرْكِهِمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِإِيمَانِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الَّذِينَ اقْتَدَوْا بِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ﴾ الْآيَةَ. يَقُولُ: ابْتَدَعَهَا هَؤُلَاءِ الصَّالِحُونَ (فَما رَعَوْها) الْمُتَأَخِّرُونَ (حَقَّ رِعايَتِها) (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) يَعْنِي الَّذِينَ ابْتَدَعُوهَا أَوَّلًا وَرَعَوْهَا (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) يَعْنِي الْمُتَأَخِّرِينَ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، جَاءُوا مِنَ الْكُهُوفِ وَالصَّوَامِعِ وَالْغِيرَانِ فَآمَنُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ. الثَّالِثَةُ- وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، فَيَنْبَغِي لِمَنِ ابْتَدَعَ خَيْرًا أَنْ يَدُومَ عَلَيْهِ، وَلَا يَعْدِلَ عَنْهُ إِلَى ضِدِّهِ فَيَدْخُلُ فِي الْآيَةِ. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ- وَاسْمُهُ صُدَيُّ بْنُ عَجْلَانَ- قَالَ: أَحْدَثْتُمْ قِيَامَ رَمَضَانَ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ، إِنَّمَا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ، فَدُومُوا عَلَى الْقِيَامِ إِذْ فَعَلْتُمُوهُ وَلَا تَتْرُكُوهُ، فَإِنَّ نَاسًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ابْتَدَعُوا بِدَعًا لَمْ يَكْتُبْهَا اللَّهُ عَلَيْهِمُ ابْتَغَوْا بِهَا رِضْوَانَ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، فَعَابَهُمُ اللَّهُ بِتَرْكِهَا فَقَالَ: (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها). الرَّابِعَةُ- وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى الْعُزْلَةِ عَنِ النَّاسِ فِي الصَّوَامِعِ وَالْبُيُوتِ، وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ عِنْدَ فَسَادِ الزَّمَانِ وَتَغَيُّرِ الْأَصْدِقَاءِ وَالْإِخْوَانِ. وَقَدْ مَضَى بَيَانُ هَذَا فِي سُورَةِ (الْكَهْفِ)(٣) مُسْتَوْفًى وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي سَرِيَّةٍ مِنْ سَرَايَاهُ فَقَالَ: مَرَّ رجل بغار فيه شي مِنْ مَاءٍ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ بِأَنْ يُقِيمَ فِي ذَلِكَ الْغَارِ، فَيَقُوتُهُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ مَاءٍ وَيُصِيبُ مَا حَوْلَهُ مِنَ الْبَقْلِ وَيَتَخَلَّى عَنِ الدُّنْيَا. قَالَ: لَوْ أَنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَإِنْ أَذِنَ لِي فَعَلْتُ وَإِلَّا لَمْ أَفْعَلْ، فأتاه فقال: يا نبى الله! انى مرت بِغَارٍ فِيهِ مَا يَقُوتُنِي مِنَ الْمَاءِ وَالْبَقْلِ، فَحَدَّثَتْنِي نَفْسِي بِأَنْ أُقِيمَ فِيهِ وَأَتَخَلَّى مِنَ الدُّنْيَا. قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (م أُبْعَثْ بِالْيَهُودِيَّةِ وَلَا بِالنَّصْرَانِيَّةِ وَلَكِنِّي بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَغَدْوَةٌ أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَمَقَامُ أَحَدِكُمْ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِهِ سِتِّينَ سَنَةً (. وَرَوَى الْكُوفِيُّونَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (هَلْ تَدْرِي أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ) قَالَ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: (أَعْلَمُ النَّاسِ أَبْصَرُهُمْ بِالْحَقِّ إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا فِي الْعَمَلِ وَإِنْ كَانَ يَزْحَفُ عَلَى اسْتِهِ هَلْ تَدْرِي مِنْ أَيْنَ اتَّخَذَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الرَّهْبَانِيَّةَ ظَهَرَتْ عَلَيْهِمُ الْجَبَابِرَةُ بَعْدَ عِيسَى يَعْمَلُونَ بِمَعَاصِي اللَّهِ فَغَضِبَ أَهْلُ الْإِيمَانِ فَقَاتَلُوهُمْ فَهُزِمَ أَهْلُ الْإِيمَانِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ فَقَالُوا إِنْ أَفَنَوْنَا فَلَمْ يَبْقَ لِلدِّينِ أَحَدٌ يَدْعُونَ إِلَيْهِ فَتَعَالَوْا نَفْتَرِقُ فِي الْأَرْضِ إِلَى أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي وَعَدَنَا عِيسَى- يَعْنُونَ مُحَمَّدًا ﷺ- فَتَفَرَّقُوا فِي غِيرَانِ الْجِبَالِ وَأَحْدَثُوا رَهْبَانِيَّةً فَمِنْهُمْ مَنْ تَمَسَّكَ بِدِينِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ- وَتَلَا (وَرَهْبانِيَّةً) الْآيَةَ- أَتَدْرِي مَا رَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِي الهجرة والجهاد والصوم والصلاة وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَالتَّكْبِيرُ عَلَى التِّلَاعِ يَا ابْنَ مَسْعُودٍ اخْتَلَفَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَنَجَا مِنْهُمْ فِرْقَةٌ وَهَلَكَ سَائِرُهَا وَاخْتَلَفَ مَنْ كَانَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ النَّصَارَى عَلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَنَجَا مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ وَهَلَكَ سَائِرُهَا فِرْقَةٌ وَازَتِ الْمُلُوكَ وَقَاتَلَتْهُمْ عَلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَتَّى قُتِلُوا وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طَاقَةٌ بِمُوَازَاةِ الْمُلُوكِ أَقَامُوا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِهِمْ فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى بن مَرْيَمَ فَأَخَذَتْهُمُ الْمُلُوكُ وَقَتَلَتْهُمْ وَقَطَّعَتْهُمْ بِالْمَنَاشِيرِ وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طَاقَةٌ بِمُوَازَاةِ الْمُلُوكِ وَلَا بِأَنْ يُقِيمُوا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِهِمْ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَسَاحُوا فِي الْجِبَالِ وَتَرَهَّبُوا فِيهَا وَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) الْآيَةَ- فَمَنْ آمَنَ بِي وَاتَّبَعَنِي وَصَدَّقَنِي فَقَدْ رَعَاهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِي فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسقون) يعنى الذي تهودوا وتهصروا. وَقِيلَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَدْرَكُوا مُحَمَّدًا ﷺ فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. وَفِي الْآيَةُ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ، أَيْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ أَيْضًا فَلَا تَعْجَبْ مِنْ أَهْلِ عَصْرِكَ ان أصروا على الكفر. والله أعلم.


(١) راجع ج ٤ ص ٥

(٢) راجع ج ٨ ص ١٢٢

(٣) راجع ج ١٠ ص ٣٦٠


(تفسير القرطبي — القرطبي (٦٧١ هـ))


ليست هناك تعليقات: