الأربعاء، 6 نوفمبر 2024

من سورة إبراهيم

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٦_٨
من سورة إبراهيم 
﴿وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِ ٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ إِذۡ أَنجَىٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ یَسُومُونَكُمۡ سُوۤءَ ٱلۡعَذَابِ وَیُذَبِّحُونَ أَبۡنَاۤءَكُمۡ وَیَسۡتَحۡیُونَ نِسَاۤءَكُمۡۚ وَفِی ذَ ٰ⁠لِكُم بَلَاۤءࣱ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِیمࣱ (٦) وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكُمۡ لَىِٕن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِیدَنَّكُمۡۖ وَلَىِٕن كَفَرۡتُمۡ إِنَّ عَذَابِی لَشَدِیدࣱ (٧) وَقَالَ مُوسَىٰۤ إِن تَكۡفُرُوۤا۟ أَنتُمۡ وَمَن فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعࣰا فَإِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِیٌّ حَمِیدٌ (٨)﴾ [إبراهيم ٦-٨]

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى، حِينَ ذَكَّر قَوْمَهُ بِأَيَّامِ اللَّهِ عِنْدَهُمْ وَنِعَمَهُ عَلَيْهِمْ، إِذْ أَنْجَاهُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَمَا كَانُوا يَسُومُونَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْإِذْلَالِ، حِينَ(١) كَانُوا يَذْبَحُونَ مَنْ وُجِدَ مِنْ أَبْنَائِهِمْ، وَيَتْرُكُونَ إِنَاثَهُمْ فَأَنْقَذَ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذِهِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ أَيْ: نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْهُ عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ، أَنْتُمْ عَاجِزُونَ عَنِ الْقِيَامِ بِشُكْرِهَا.وَقِيلَ: وَفِيمَا كَانَ يَصْنَعُهُ بِكُمْ قَوْمُ فِرْعَوْنَ مِنْ تِلْكَ الْأَفَاعِيلِ ﴿بَلَاءٌ﴾ أَيِ: اخْتِبَارٌ عَظِيمٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هَذَا وَهَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٦٨] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ﴾ أَيْ: آذَنَكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِوَعْدِهِ لَكُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَإِذْ أَقْسَمَ رَبُّكُمْ وَآلَى بِعِزَّتِهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ كَمَا قَالَ: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ](٢) ﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٦٧] .
* * *وَقَوْلُهُ(٣) ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ﴾(٤) أَيْ: لَئِنْ شَكَرْتُمْ نِعْمَتِي(٥) عَلَيْكُمْ لِأَزِيدَنَّكُمْ مِنْهَا، ﴿وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ﴾ أَيْ: كَفَرْتُمُ النِّعَمَ وَسَتَرْتُمُوهَا وَجَحَدْتُمُوهَا، ﴿إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ وَذَلِكَ بِسَلْبِهَا عَنْهُمْ، وَعِقَابِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى كُفْرِهَا.وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ"(٦) .وَفِي الْمُسْنَدِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَرَّ بِهِ سَائِلٌ فَأَعْطَاهُ تَمْرَةً، فَتَسَخَّطها وَلَمْ يَقْبَلْهَا، ثُمَّ مَرَّ بِهِ آخَرُ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، فَقَبِلَهَا وَقَالَ: تَمْرَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَمَرَ لَهُ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، أَوْ كَمَا قَالَ.قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْودُ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ الصَّيدلاني، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ ﷺ سَائِلٌ فَأَمَرَ لَهُ بِتَمْرَةٍ فَلَمْ يَأْخُذْهَا -أَوْ: وَحِشَّ بِهَا -قَالَ: وَأَتَاهُ آخَرُ فَأَمَرَ لَهُ بِتَمْرَةٍ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! تَمْرَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. فَقَالَ لِلْجَارِيَةِ: "اذْهَبِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فأعطيه الأربعين درهما التي عِنْدَهَا".تَفَرَّدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ(٧) .وَعُمَارَةُ بْنُ زَاذَانَ وَثَّقَهُ ابْنُ حبَّان، وَأَحْمَدُ، وَيَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ(٨) وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: صَالِحٌ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَة: لَا بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: يكتب حديثه وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، لَيْسَ بِالْمَتِينِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: رُبَّمَا يُضْطَرَبُ فِي حَدِيثِهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: رُوِيَ عَنْهُ أَحَادِيثُ مُنْكِرَةٌ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: لَيْسَ بِذَاكَ. وَضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَا بَأْسَ بِهِ مِمَّنْ يَكْتُبُ حَدِيثَهُ.
* * *وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ أَيْ: هُوَ غَنِيٌّ عَنْ شُكْرِ عِبَادِهِ، وَهُوَ الْحَمِيدُ الْمَحْمُودُ، وَإِنَّ كَفَرَهُ مَنْ كَفَرَهُ، كَمَا قَالَ: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزُّمَرِ: ٧] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [التَّغَابُنِ: ٦] .وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فيما يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنَّهُ قَالَ: "يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ فِي(٩) مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي، لَوْ أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، إلا كما ينقُص المخْيَط إذا أدخل في الْبَحْرِ". فَسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ(١٠) .

(١) في ت، أ: "حيث".
(٢) زيادة من ت، أ.
(٣) في ت، أ: "وقال ها هنا".
(٤) في ت، أ: "وإذ تأذن ربكم لئن".
(٥) في ت: "نعمة الله".
(٦) رواه أحمد في المسند (٥/٨٠) وابن ماجة في السنن برقم (٩٠) من حديث ثوبان رضي الله عنه، وحسنه العراقي كما في الزوائد للبوصيري (١/٦١) .
(٧) المسند (٣/١٥٤) .
(٨) في ت: "أحمد ويعقوب بن سفيان وابن حبان".
(٩) في ت، أ: "من".
(١٠) صحيح مسلم برقم (٢٥٧٧) .

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

من سورة إبراهيم

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٥ من سورة إبراهيم 
﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مُوسَىٰ بِـَٔایَـٰتِنَاۤ أَنۡ أَخۡرِجۡ قَوۡمَكَ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَذَكِّرۡهُم بِأَیَّىٰمِ ٱللَّهِۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّكُلِّ صَبَّارࣲ شَكُورࣲ﴾ [إبراهيم ٥]

يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ وأَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ، لِتُخْرِجَ النَّاسَ كُلَّهُمْ، تَدْعُوهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، كَذَلِكَ أَرْسَلْنَا مُوسَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بِآيَاتِنَا.قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهِيَ التِّسْعُ الْآيَاتِ.﴿أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ﴾ أَيْ: أَمَرْنَاهُ قَائِلِينَ لَهُ: ﴿أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ أَيِ: ادْعُهُمْ إِلَى الْخَيْرِ، لِيَخْرُجُوا مِنْ ظُلُمَاتِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ إِلَى نُورِ الْهُدَى وَبَصِيرَةِ الْإِيمَانِ.﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾ أَيْ: بِأَيَادِيهِ ونعَمه عَلَيْهِمْ، فِي إِخْرَاجِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ أَسْرِ فِرْعَوْنَ.وَقَهْرِهِ وَظُلْمِهِ وَغَشْمِهِ، وَإِنْجَائِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ عَدْوِهِمْ، وَفَلْقِهِ لَهُمُ الْبَحْرَ، وَتَظْلِيلِهِ إِيَّاهُمْ بِالْغَمَامِ، وَإِنْزَالِهِ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ. قَالَ ذَلِكَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ الَّذِي رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ حَيْثُ(١) قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانٍ الْجُعْفِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ [عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾ قَالَ: "بِنِعَمِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى] "(٢) .[وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ](٣) وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانٍ، بِهِ(٤) وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُهُ(٥) أَيْضًا مَوْقُوفًا(٦) وَهُوَ أَشْبَهُ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ أَيْ: إِنَّ فِيمَا صَنَعْنَا بِأَوْلِيَائِنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ أَنْقَذْنَاهُمْ مِنْ يَدِ فِرْعَوْنَ، وَأَنْجَيْنَاهُمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ، لَعِبْرَةٌ لِكُلِّ صَبَّار، أَيْ: فِي الضَّرَّاءِ، شَكُورٌ، أَيْ: فِي السَّرَّاءِ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ: نِعْمَ الْعَبْدُ، عَبْدٌ إِذَا ابتُلِي صَبَر، وَإِذَا أُعْطِيَ شَكَرَ.وَكَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ أَمْرَ الْمُؤْمِنِ كُلَّه عَجَب، لَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، إِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكر فَكَانَ خيرا له"(٧) .

(١) في هـ: "في مسنده حديث قال" والمثبت من ت، أ.
(٢) زيادة من ت، أ، والمسند.
(٣) زيادة من ت، أ.
(٤) زوائد المسند (٥/١٢٢) وتفسير الطبري (١٦/٥٢٢) .
(٥) في ت: "بن أحمد".
(٦) زوائد المسند (٥/١٢٢) .
(٧) صحيح مسلم برقم (٢٩٩٩) من حديث صهيب رضي الله عنه.

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

من سورة إبراهيم

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٩
من سورة إبراهيم 
﴿أَلَمۡ یَأۡتِكُمۡ نَبَؤُا۟ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُمۡ قَوۡمِ نُوحࣲ وَعَادࣲ وَثَمُودَ وَٱلَّذِینَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَا یَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا ٱللَّهُۚ جَاۤءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَرَدُّوۤا۟ أَیۡدِیَهُمۡ فِیۤ أَفۡوَ ٰ⁠هِهِمۡ وَقَالُوۤا۟ إِنَّا كَفَرۡنَا بِمَاۤ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ وَإِنَّا لَفِی شَكࣲّ مِّمَّا تَدۡعُونَنَاۤ إِلَیۡهِ مُرِیبࣲ﴾ [إبراهيم ٩]

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هَذَا مِنْ تَمَامِ قِيلِ(١) موسى لقومه(٢) .يعني: وتذكاره إِيَّاهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ، بِانْتِقَامِهِ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ.وَفِيمَا قَالَ(٣) ابْنُ جَرِيرٍ نَظَرٌ؛ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَبَرٌ مُسْتَأْنَفٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِهَذِهِ الأمة، فإنه قد قيل: إِنَّ قِصَّةَ عَادٍ وَثَمُودَ لَيْسَتْ فِي التَّوْرَاةِ، فَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ كَلَامِ مُوسَى لِقَوْمِهِ وقَصَه عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَلَا شَكَّ(٤) أَنْ تَكُونَ هَاتَانِ الْقِصَّتَانِ فِي "التَّوْرَاةِ"، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ قَصَّ عَلَيْنَا خَبَرَ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ، مِمَّا لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ(٥) إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، أَيْ: بِالْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَاتِ الْبَاهِرَاتِ الْقَاطِعَاتِ.وَقَالَ ابْنُ(٦) إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ﴾ كَذَبَ النَّسَّابُونَ.وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: مَا وَجَدْنَا أَحَدًا يَعْرِفُ مَا بَعْدَ مَعَدِ بْنِ عَدْنَانَ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ﴾ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهُ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ أَشَارُوا إِلَى أَفْوَاهِ الرُّسُلِ يَأْمُرُونَهُمْ(٧) بِالسُّكُوتِ عَنْهُمْ، لَمَّا دَعَوْهُمْ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.وَقِيلَ: بَلْ وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ تَكْذِيبًا لَهُمْ.وَقِيلَ: بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ سُكُوتِهِمْ عَنْ جَوَابِ الرُّسُلِ.وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَقَتَادَةُ: مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ كَذَّبُوهُمْ وَرَدُّوا عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ.قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَتَوْجِيهُهُ(٨) أَنَّ "فِي" ها هنا بِمَعْنَى "الْبَاءِ"، قَالَ: وَقَدْ سُمِعَ مِنَ الْعَرَبِ: "أَدْخَلَكَ اللَّهُ بِالْجَنَّةِ" يَعْنُونَ: فِي الْجَنَّةِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:وَأَرْغَبُ فِيهَا عَن لَقيطٍ ورهْطه ... عَن سِنْبس لَسْتُ أرْغَب ...يُرِيدُ: أَرْغَبُ بِهَا(٩) .قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ مُجَاهِدٍ تَفْسِيرُ ذَلِكَ بِتَمَامِ الْكَلَامِ: ﴿وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ فَكَأَنَّ هَذَا [وَاللَّهُ أَعْلَمُ](١٠) تَفْسِيرٌ لِمَعْنَى رَدِّ أَيْدِيهِمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ.وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ﴾ قَالَ: عَضُّوا عَلَيْهَا غَيْظًا.وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، أَبِي هُبَيرَْة ابْنِ مَرْيَمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ أَيْضًا. وَقَدِ اخْتَارَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَوَجَّهَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مُخْتَارًا لَهُ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ: ﴿وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١١٩] .وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا سُمِعُوا كِتَابَ(١١) اللَّهِ عَجبوا، ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم.وَقَالُوا: ﴿إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ يَقُولُونَ: لَا نُصَدِّقُكُمْ فِيمَا جِئْتُمْ بِهِ؛ فَإِنَّ عِنْدَنَا فِيهِ شَكًّا قَوِيًّا.

(١) في أ: "قول".
(٢) تفسير الطبري (١٦/٥٢٩) .
(٣) في ت، أ: "قاله".
(٤) في ت، أ: "لأوشك".
(٥) في ت، أ: "عدده".
(٦) في ت: "أبو".
(٧) في ت: "يأمروهم".
(٨) في ت: "ويوجهه"
(٩) تفسير الطبري (١٦/٥٣٤) .
(١٠) زيادة من ت، أ.
(١١) في ت: "كلام".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الاثنين، 28 أكتوبر 2024

من سورة الرعد

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٣٨_٣٩
من سورة الرعد 
﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلࣰا مِّن قَبۡلِكَ وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ أَزۡوَ ٰ⁠جࣰا وَذُرِّیَّةࣰۚ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن یَأۡتِیَ بِـَٔایَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ لِكُلِّ أَجَلࣲ كِتَابࣱ (٣٨) یَمۡحُوا۟ ٱللَّهُ مَا یَشَاۤءُ وَیُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥۤ أُمُّ ٱلۡكِتَـٰبِ (٣٩)﴾ [الرعد ٣٨-٣٩]

يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا أَرْسَلْنَاكَ، يَا مُحَمَّدُ، رَسُولًا بَشَرِيًّا(١) كَذَلِكَ [قَدْ](٢) بَعَثْنَا الْمُرْسَلِينَ قَبْلَكَ بَشَرًا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَيَأْتُونَ الزَّوْجَاتِ، وَيُولَدُ لَهُمْ، وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذَرِّيَّةً، وَقَدْ قَالَ [اللَّهُ](٣) تَعَالَى لِأَشْرَفِ الرُّسُلِ وَخَاتَمِهِمْ: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الْكَهْفِ: ١١٠] .وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَقُومُ وَأَنَامُ، وَآكُلُ الدَّسَمَ(٤) وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي".(٥)وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَنْبَأَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ: التَّعَطُّرُ، وَالنِّكَاحُ، وَالسِّوَاكُ، وَالْحِنَّاءُ"(٦) .وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ وَكِيع عَنْ حَفْصِ بْنِ غِياث، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبَى الشِّمَالِ(٧) عَنْ أَبِي أَيُّوبَ. . . فَذَكَرَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا أَصَحُّ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي لَمْ يَذْكَرْ فِيهِ أَبُو الشَّمَالِ(٨)(٩) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أَيْ: لَمْ يَكُنْ يَأْتِي قومَه بِخَارِقٍ إِلَّا إِذَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ، لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، بَلْ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ.﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ أَيْ: لِكُلِّ مُدَّةٍ مَضْرُوبَةٍ كِتَابٌ مَكْتُوبٌ بِهَا، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الْحَجِّ: ٧٠](١٠) .وَكَانَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ أَيْ: لِكُلِّ كِتَابٍ أَجَلٌ يَعْنِي(١١) لِكُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ مِنَ السَّمَاءِ مُدَّةٌ مَضْرُوبَةٌ عِنْدَ اللَّهِ وَمِقْدَارٌ مُعَيَّنٌ، فَلِهَذَا يَمْحُو(١٢) مَا يَشَاءُ مِنْهَا وَيُثْبِتُ، يَعْنِي حَتَّى نُسِخَتْ كُلُّهَا بِالْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.وقوله: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذلك، فقال الثوري، ووَكِيع، وهُشَيْم، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُدَبِّرُ أَمْرَ السَّنَةِ، فَيَمْحُو مَا يَشَاءُ، إِلَّا الشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ، وَالْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ. وَفِي رِوَايَةٍ: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ قَالَ: كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ، وَالشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ فَإِنَّهُمَا قَدْ فُرِغَ مِنْهُمَا.وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ إِلَّا الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ، وَالشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ، فَإِنَّهُمَا لَا يَتَغَيَّرَانِ.وَقَالَ مَنْصُورٌ: سَأَلْتُ مُجَاهِدًا فَقُلْتُ: أَرَأَيْتَ دُعَاءَ أَحَدِنَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ، إِنْ كَانَ اسْمِي فِي السُّعَدَاءِ فَأَثْبِتْهُ فِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَشْقِيَاءِ فَامْحُهُ عَنْهُمْ وَاجْعَلْهُ فِي السُّعَدَاءِ. فَقَالَ: حَسَنٌ. ثُمَّ لَقِيتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَوْلٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: ﴿إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدُّخَانِ: ٣، ٤] قَالَ: يَقْضِي فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَا يَكُونُ فِي السَّنة مِنْ رِزْقٍ أَوْ مُصِيبَةٍ، ثُمَّ يُقَدِّمُ مَا(١٣) يَشَاءُ وَيُؤَخِّرُ مَا(١٤) يَشَاءُ، فَأَمَّا كِتَابُ الشَّقَاوَةِ(١٥) وَالسَّعَادَةِ فَهُوَ ثَابِتٌ لَا يُغير(١٦) .وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ شَقِيق بْنِ سَلَمَةَ: إِنَّهُ كَانَ يَكْثُرُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ، إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنَا أَشْقِيَاءَ فَامْحُهُ، وَاكْتُبْنَا سُعَدَاءَ، وَإِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنَا سُعَدَاءَ فَأَثْبِتْنَا، فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ وَعِنْدَكَ أُمُّ الْكِتَابِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ(١٧) .وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي حَكِيمَةَ(١٨) عِصْمَةَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدي؛ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهُوَ يَبْكِي: اللَّهُمَّ، إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَ عَلَيَّ شِقْوَةً أَوْ ذَنْبًا فَامْحُهُ، فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ، وَعِنْدَكَ أُمُّ الْكِتَابِ، فَاجْعَلْهُ سَعَادَةً وَمَغْفِرَةً.(١٩)وَقَالَ حَمَّادٌ عَنْ خَالِدٍ الحذَّاء، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ أَيْضًا.وَرَوَاهُ شَرِيكٌ، عَنْ هِلَالِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْم، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، بِمَثَلِهِ.وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا حجاج، حَدَّثَنَا خِصَافٌ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ؛ أَنَّ كَعْبًا قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَأَنْبَأْتُكَ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾(٢٠) .وَمَعْنَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ: أَنَّ الْأَقْدَارَ يَنْسَخُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنْهَا، وَيُثْبِتُ مِنْهَا مَا يَشَاءُ، وَقَدْ يُسْتَأْنَسُ لِهَذَا الْقَوْلِ(٢١) بِمَا رَوَاهُ الإمام أحمد: حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، وَهُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الجَعْد، عَنْ ثَوْبَان قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إن الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبه، وَلَا يَرُدُّ القَدَر إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ".وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، بِهِ(٢٢) .وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ(٢٣) وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "إِنَّ الدُّعَاءَ وَالْقَضَاءَ لَيَعْتَلِجَانِ(٢٤) بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ"(٢٥) .وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْج، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ لَوْحًا مَحْفُوظًا مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ لَهَا دَفَّتَان مِنْ يَاقُوتٍ -وَالدَّفَّتَانِ: لَوْحَانِ -لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ [كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثُمِائَةٍ](٢٦) وَسِتُّونَ لَحْظَةً، يَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ.(٢٧)وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرظي، عَنْ فُضَالة بْنِ عُبَيد، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " [إن الله](٢٨) يَفْتَحُ الذِّكْرَ فِي ثَلَاثِ سَاعَاتٍ يَبْقَيْنَ مِنَ اللَّيْلِ، فِي السَّاعَةِ الْأُولَى مِنْهَا يَنْظُرُ فِي الذِّكْرِ الَّذِي لَا يَنْظُرُ فِيهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ، فَيَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ". وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.(٢٩)وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ قَالَ: يَمْحُو مِنَ الرِّزْقِ وَيَزِيدُ فِيهِ، وَيَمْحُو مِنَ الْأَجَلِ وَيَزِيدُ فِيهِ. فَقِيلَ لَهُ: مَنْ حَدَّثَكَ بِهَذَا؟ فَقَالَ: أَبُو صَالِحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِئَابٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ. ثُمَّ سُئِلَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: يُكْتَبُ الْقَوْلُ كُلُّهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسَ، طُرِحَ مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ، مِثْلَ قَوْلِكَ: أَكَلْتُ وَشَرِبْتُ، دَخَلْتُ وَخَرَجْتُ وَنَحْوِهِ مِنَ الْكَلَامِ، وَهُوَ صَادِقٌ، وَيُثْبَتُ مَا كَانَ فِيهِ الثَّوَابُ، وَعَلَيْهِ الْعِقَابُ.(٣٠)وَقَالَ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْكِتَابُ كِتَابَانِ: فَكُتَّابٌ يَمْحُو اللَّهُ مِنْهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ.وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ يقول: هو الرَّجُلُ يَعْمَلُ الزَّمَانَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، ثُمَّ يَعُودُ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَيَمُوتُ عَلَى ضَلَالَةٍ، فَهُوَ الَّذِي يَمْحُو -وَالَّذِي يُثْبِتُ: الرَّجُلُ يَعْمَلُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَقَدْ كَانَ سَبَقَ لَهُ خَيْرٌ حَتَّى يَمُوتَ وَهُوَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَهُوَ الَّذِي يُثْبِتُ.وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير: أَنَّهَا بِمَعْنَى: ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٤] .وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عباس: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ يَقُولُ: يُبَدِّلُ مَا يَشَاءُ فَيَنْسَخُهُ، وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ فَلَا يُبَدِّلُهُ، ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ يَقُولُ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، النَّاسِخُ، وَالْمَنْسُوخُ، وَمَا يُبَدِّلُ، وَمَا يُثْبِتُ كُلُّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ.وَقَالَ قتادة في قوله: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ كَقَوْلِهِ ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٠٦]وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قوله: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ قَالَ: قَالَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ حِينَ أُنْزِلَتْ: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ مَا نَرَاكَ يَا مُحَمَّدُ تَمْلِكُ مِنْ شَيْءٍ، وَلَقَدْ فُرغ مِنَ الْأَمْرِ. فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَخْوِيفًا، وَوَعِيدًا لَهُمْ: إِنَّا إِنْ شِئْنَا أَحْدَثْنَا لَهُ مِنْ أَمْرِنَا مَا شِئْنَا، وَنُحْدِثُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ، فَنَمْحُو وَنُثْبِتُ(٣١) مَا نَشَاءُ مِنْ أَرْزَاقِ النَّاسِ وَمَصَائِبِهِمْ، وَمَا نُعْطِيهِمْ، وَمَا نَقْسِمُ لَهُمْ.وَقَالَ الحسن البصري: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ قَالَ: مَنْ جَاءَ أَجْلُهُ، فَذَهَب، وَيُثْبِتُ الَّذِي هُوَ حَيٌّ يَجْرِي إِلَى أَجْلِهِ.وَقَدِ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ قَالَ: الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ.وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ جُمْلَةُ الْكِتَابِ وَأَصْلُهُ.وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ قَالَ: كِتَابٌ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ.وَقَالَ سُنَيد بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنِي مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَيَّار، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ سَأَلَ كَعْبًا عَنْ "أُمِّ الْكِتَابِ"، فَقَالَ: عَلِم اللَّهُ، مَا هُوَ خَالِقٌ، وَمَا خَلْقُه عَامِلُونَ، ثُمَّ قَالَ(٣٢) لِعِلْمِهِ: "كُنْ كِتَابًا". فَكَانَا(٣٣) كِتَابًا.وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ قال: الذكر، [والله أعلم] .(٣٤)

(١) في أ: "بشرا".
(٢) زيادة من ت، أ.
(٣) زيادة من ت، أ.
(٤) في ت، أ: "اللحم".
(٥) صحيح البخاري برقم (٥٠٦٣) وصحيح مسلم برقم (١٤٠١) وليس فيهما: "وآكل الدسم".
(٦) المسند (٥/٤٢١) .
(٧) في أ: "أبي السماك".
(٨) في أ: "أبو السماك".
(٩) سنن الترمذي برقم (١٠٨٠) .
(١٠) في ت، أ: "السموات" وهو خطأ.
(١١) في ت، أ: "بمعنى".
(١٢) في ت: "يمحى".
(١٣) في ت: "من".
(١٤) في ت: "من".
(١٥) في ت: "الشقاء".
(١٦) رواه الطبري في تفسيره (١٦/٤٨٠) .
(١٧) رواه الطبري في تفسيره (١٦/٤٨١) .
(١٨) في أ: "أبي حكيم".
(١٩) تفسير الطبري (١٦/٤٨١) .
(٢٠) تفسير الطبري (١٦/٤٨٤) .
(٢١) في أ: "الأقوال".
(٢٢) المسند (٥/٢٢٧) وسنن ابن ماجة برقم (٩٠) .
(٢٣) صحيح مسلم برقم (٢٥٥٧) من حديث أنس ولفظه: "من سره أن يبسط عليه رزقه، أو ينسأ في أثره، فليصل رحمه".
(٢٤) في ت، أ: "ليتعلجان".
(٢٥) لم أعثر عليه بهذا اللفظ.
(٢٦) زيادة من تفسير الطبري، ومكانه في هـ، ت، أ: "ثلاث".
(٢٧) تفسير الطبري (١٦/٤٨٩) .
(٢٨) زيادة من ت، أ، والطبري.
(٢٩) تفسير الطبري (١٦/٤٨٨) .
(٣٠) رواه الطبري في تفسيره (١٦/٤٨٤) .
(٣١) في ت، أ: "فيمحو ويثبت".
(٣٢) في ت، أ: "فقال".
(٣٣) في ت، أ: "فكان".
(٣٤) زيادة من أ.

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

السبت، 26 أكتوبر 2024

من سورة الرعد

 صدقة جارية 

تفسير اية رقم ٣٤_٣٥

من سورة الرعد 

﴿لَّهُمۡ عَذَابࣱ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ وَلَعَذَابُ ٱلۡـَٔاخِرَةِ أَشَقُّۖ وَمَا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقࣲ (٣٤) ۞ مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِی وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۖ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُۖ أُكُلُهَا دَاۤىِٕمࣱ وَظِلُّهَاۚ تِلۡكَ عُقۡبَى ٱلَّذِینَ ٱتَّقَوا۟ۚ وَّعُقۡبَى ٱلۡكَـٰفِرِینَ ٱلنَّارُ (٣٥)﴾ [الرعد ٣٤-٣٥]


ذَكَرَ تَعَالَى عِقَابَ الْكُفَّارِ وَثَوَابَ الْأَبْرَارِ: فَقَالَ بَعْدَ، إِخْبَارِهِ عَنْ حَالِ(١) الْمُشْرِكِينَ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أَيْ: بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ قَتْلًا وَأَسْرًا، ﴿وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ﴾ أَيِ: المدّخَر [لَهُمْ](٢) مَعَ هَذَا الْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا، " أَشَقُّ " أَيْ: مِنْ هَذَا بِكَثِيرٍ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لِلْمُتَلَاعِنِينَ: "إِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ"(٣) وَهُوَ كَمَا قَالَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا لَهُ انْقِضَاءٌ، وَذَاكَ دَائِمٌ أَبَدًا فِي نَارٍ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ سَبْعُونَ ضِعْفًا، وَوِثَاقٌ لَا يُتَصَوَّرُ كَثَافَتُهُ وَشِدَّتُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾ [الْفَجْرِ: ٢٥، ٢٦] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا﴾ [الْفُرْقَانِ: ١١ -١٥] .وَلِهَذَا قَرَنَ هَذَا بِهَذَا؛ فَقَالَ: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ أَيْ: صِفَتُهَا وَنَعْتُهَا، ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ﴾ أَيْ: سَارِحَةٌ فِي أَرْجَائِهَا وَجَوَانِبِهَا، وَحَيْثُ شَاءَ أَهْلُهَا، يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا، أَيْ: يَصْرِفُونَهَا كَيْفَ شَاءُوا وَأَيْنَ شَاءُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾ [محمد: ١٥] .

* * *وَقَوْلُهُ: ﴿أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا﴾ أَيْ: فِيهَا الْمَطَاعِمُ(٤) وَالْفَوَاكِهُ وَالْمَشَارِبُ، لَا انْقِطَاعَ [لَهَا](٥) وَلَا فَنَاءَ.وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَفِيهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ هَذَا، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكعْكعت فَقَالَ: "إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ -أَوْ: أُرِيتُ الْجَنَّةَ -فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا".(٦)وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَقيل، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ، إِذْ تَقَدَّمُ رسولُ اللَّهِ ﷺ فَتَقَدَّمْنَا، ثُمَّ تَنَاوَلَ شَيْئًا لِيَأْخُذَهُ ثُمَّ تَأَخَّرَ. فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ لَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَنَعْتَ الْيَوْمَ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا مَا رَأَيْنَاكَ كُنْتَ تَصْنَعُهُ. فَقَالَ: "إِنِّي عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَمَا فِيهَا مِنَ الزَّهْرَةِ وَالنَّضْرَةِ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا قِطْفًا مِنْ عِنَبٍ لِآتِيَكُمْ بِهِ، فَحِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَلَوْ أَتَيْتُكُمْ بِهِ لَأَكَلَ مِنْهُ مِنْ بَيْنِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا يَنْقُصونَه".(٧)وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، شَاهِدًا لِبَعْضِهِ.(٨)وَعَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: فِيهَا عِنَبٌ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: فَمَا عِظَم الْعُنْقُودِ؟ قَالَ: "مَسِيرَةُ شَهْرٍ لِلْغُرَابِ الْأَبْقَعِ(٩) وَلَا يَفْتُرُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ.(١٠)وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَنَا رَيْحَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلابة، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ، عَنْ ثَوْبان قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا نَزَعَ ثَمَرَةً مِنَ الْجَنَّةِ عَادَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى".(١١)وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "يَأْكُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَيَشْرَبُونَ، وَلَا يَمْتَخِطُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَبُولُونَ، طَعَامُهُمْ(١٢) جُشَاء كَرِيحِ الْمِسْكِ، وَيُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّقْدِيسَ(١٣) كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.(١٤)وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ ثُمَامَةَ(١٥) بْنِ عُقْبَةَ(١٦) سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، تَزْعُمُ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ؟ قال: نَعَمْ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، [إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ](١٧) لَيُعْطَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَالشَّهْوَةِ". قَالَ: فَإِنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ تَكُونُ لَهُ الْحَاجَةُ، وَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ أَذًى؟ قَالَ: "حَاجَةُ أَحَدِهِمْ رَشْحٌ يَفِيضُ مِنْ جُلُودِهِمْ، كَرِيحِ الْمِسْكِ، فَيَضْمُرُ بَطْنُهُ".(١٨)وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّكَ لَتَنْظُرُ إِلَى الطَّيْرِ فِي الْجَنَّةِ، فَيَخِرُّ بَيْنَ يَدَيْكَ مَشْوِيًّا(١٩)(٢٠) .وَجَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: أَنَّهُ إِذَا فُرغ مِنْهُ عَادَ طَائِرًا كَمَا كَانَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى.وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ﴾ [الْوَاقِعَةِ: ٣٢، ٣٣] وَقَالَ ﴿وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا﴾ [الْإِنْسَانِ: ١٤] .وَكَذَلِكَ ظِلُّهَا لَا يَزُولُ وَلَا يَقْلِصُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا﴾ [النِّسَاءِ: ٥٧] .وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً، يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْمُجِدُّ الْجَوَادَ الْمُضَمَّرَ السَّرِيعَ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا"، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾ [الْوَاقِعَةِ: ٣٠] .وَكَثِيرًا مَا يُقْرِنُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَصِفَةِ النَّارِ، لِيُرَغِّبَ فِي الْجَنَّةِ وَيُحَذِّرَ مِنَ النَّارِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ صِفَةَ الْجَنَّةِ بِمَا ذَكَرَ، قَالَ بَعْدَهُ: ﴿تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ﴾ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [الْحَشْرِ: ٢٠] .وَقَالَ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ خَطِيبُ دِمَشْقَ فِي بَعْضِ خُطَبِهِ: عِبَادَ اللَّهِ(٢١) هَلْ جَاءَكُمْ مُخْبِرٌ يُخْبِرُكُمْ أَنَّ شَيْئًا مِنْ عِبَادَتِكُمْ(٢٢) تُقُبِّلَتْ مِنْكُمْ، أَوْ أَنَّ شَيْئًا مِنْ خَطَايَاكُمْ غُفِرَتْ لَكُمْ؟ ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٥](٢٣) وَاللَّهِ لَوْ عُجِّل لَكُمُ الثَّوَابُ فِي الدُّنْيَا لَاسْتَقْلَلْتُمْ كُلُّكُمْ مَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ، أَوَ تَرْغَبُونَ(٢٤) فِي طَاعَةِ اللَّهِ لِتَعْجِيلِ دُنْيَاكُمْ، وَلَا تُنَافِسُونَ فِي جَنَّةٍ ﴿أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ﴾ رَوَاهُ ابن أبي حاتم.


(١) في ت: "أحوال".

(٢) زيادة من ت، أ.

(٣) رواه مسلم في صحيحه برقم (١٤٩٣) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(٤) في ت، أ: "الطعام".

(٥) زيادة من ت.

(٦) صحيح البخاري برقم (٧٤٨) وصحيح مسلم برقم (٩٠٧) .

(٧) ورواه أحمد في المسند (٣/٣٥٢) من طريق عبيد الله وحسين بن محمد، عن عبيد الله به نحوه.

(٨) صحيح مسلم برقم (٩٠٤) .

(٩) في أ: "لا يقع".

(١٠) المسند (٤/١٨٤) .

(١١) المعجم الكبير (٢/١٠٢) وعباد بن منصور متكلم فيه.

(١٢) في ت، أ: "طعامهم ذلك".

(١٣) في ت، أ: "التسبيح والتكبير".

(١٤) صحيح مسلم برقم (٢٨٣٥) .

(١٥) في هـ، ت، أ: "تمام" والتصويب من المسند.

(١٦) في ت: "عقبة بن منبه".

(١٧) زيادة من ت، أ، والمسند.

(١٨) المسند (٤/٣٦٧) .

(١٩) في ت: "مستويا".

(٢٠) جزء الحسن بن عرفة برقم (٢٢) وحميد الأعرج ضعيف وأورد الذهبي هذا الحديث في الميزان (١/٦١٤) من جملة مناكيره.

(٢١) في أ: "الرحمن".

(٢٢) في ت، أ: "أعمالكم".

(٢٣) في ت: "أم حسبتم" وهو خطأ.

(٢٤) في ت، أ: "أترغبون".


(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))



الأحد، 20 أكتوبر 2024

من سورة الرعد

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٩_٢٦
من سورة الرعد 
﴿۞ أَفَمَن یَعۡلَمُ أَنَّمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ كَمَنۡ هُوَ أَعۡمَىٰۤۚ إِنَّمَا یَتَذَكَّرُ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ (١٩) ٱلَّذِینَ یُوفُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ وَلَا یَنقُضُونَ ٱلۡمِیثَـٰقَ (٢٠) وَٱلَّذِینَ یَصِلُونَ مَاۤ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦۤ أَن یُوصَلَ وَیَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ وَیَخَافُونَ سُوۤءَ ٱلۡحِسَابِ (٢١) وَٱلَّذِینَ صَبَرُوا۟ ٱبۡتِغَاۤءَ وَجۡهِ رَبِّهِمۡ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُوا۟ مِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ سِرࣰّا وَعَلَانِیَةࣰ وَیَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّیِّئَةَ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ (٢٢) جَنَّـٰتُ عَدۡنࣲ یَدۡخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَاۤىِٕهِمۡ وَأَزۡوَ ٰ⁠جِهِمۡ وَذُرِّیَّـٰتِهِمۡۖ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ یَدۡخُلُونَ عَلَیۡهِم مِّن كُلِّ بَابࣲ (٢٣) سَلَـٰمٌ عَلَیۡكُم بِمَا صَبَرۡتُمۡۚ فَنِعۡمَ عُقۡبَى ٱلدَّارِ (٢٤) وَٱلَّذِینَ یَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِیثَـٰقِهِۦ وَیَقۡطَعُونَ مَاۤ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦۤ أَن یُوصَلَ وَیُفۡسِدُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمُ ٱللَّعۡنَةُ وَلَهُمۡ سُوۤءُ ٱلدَّارِ (٢٥) ٱللَّهُ یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ وَیَقۡدِرُۚ وَفَرِحُوا۟ بِٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَا فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ إِلَّا مَتَـٰعࣱ (٢٦)﴾ [الرعد ١٩-٢٦]

﴿أفَمَن يَعْلَمُ أنَّما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحَقُّ﴾: فيؤمن به، ﴿كَمَن هو أعْمى﴾: القلب لا يعلم فلا يؤمن، والهمزة لإنكار تشابهما، ﴿إنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبابِ﴾: العقول السليمة، ﴿الذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ﴾: بما أمرهم في كتابه، أو بالعهد الذي أخذ منهم حين أخرجهم من صلب آدم، ﴿ولا يَنْقُضُونَ المِيثاقَ﴾: ذلك الميثاق أو مطلق الميثاق، ﴿والَّذِينَ يَصِلُونَ ما أمَرَ اللهُ بهِ أن يُوصَلَ﴾: من صلة الرحم والإيمان بجميع الرسل ومراعاة الحقوق، ﴿ويَخْشَوْنَ رَبَّهم ويَخافُونَ سُوءَ الحِسابِ والَّذِينَ صَبَرُوا﴾: على أمر الله تعالى أو على المصائب، ﴿ابْتِغاءَ وجْهِ رَبِّهِمْ﴾، طلب مرضاته، ﴿وأقامُوا الصَّلاةَ﴾: بحدودها وبركوعها وسجودها على الوجه الشرعي، ﴿وأنفَقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ﴾ يؤدون الزكاة أي: من يجب عليه، ﴿سِرًّا وعَلانِيَةً﴾: لم يمنعهم عن ذلك حال من الأحوال في الليل والنهار وفسر بعضهم بوجه يشمل صدقة التطوع وهو الأولى، ﴿ويَدْرَءُونَ﴾: يدفعون، ﴿بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ أي: بالصالح من العمل السيئ منه، أو يجازون الإساءة بالإحسان، إذا أذاهم أحد قابلوه باللطف، ﴿أُولَئِكَ لَهم عُقْبى الدّارِ﴾: عاقبة الدنيا وهي الجنة؛ لأنها التي ينبغي أن تكون عاقبة أهلها ومرجعهم، ﴿جَنّاتُ عَدْنٍ﴾ بدل من عقبى الدار، والعدن الإقامة، أي: جنات يقيمون فيها، أو في الجنة قصر يقال له عدن له خمسة آلاف باب، أو مدينة من الجنة فيها الأنبياء والشهداء وأئمة الهدى والناس حولهم بعد، والجنات حولها، ﴿يَدْخُلُونَها﴾ صفة جنات عدن، ﴿ومَن صَلَحَ﴾ عطف على فاعل يدخلون وجاز للفصل بالضمير، ﴿مِن آبائِهِمْ وأزْواجِهِمْ وذريّاتِهِمْ﴾ يعني يلحق بهم من صلح من أهلهم وإن لم يبلغ مبلغهم كرامة لهم، ﴿والمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بابٍ﴾: من أبواب منازلهم للتهنئة قائلين ﴿سَلامٌ عَلَيْكُم بِما صَبَرتمْ﴾ متعلق بما تعلق عليه عليكم أو تقدير هذه بما صبرتم والباء للسببية أو البدلية، ﴿فنعْمَ عُقْبى الدّارِ﴾: جنة العدن، ﴿والَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثاقِهِ﴾: بعد ما أوثقوه وأقروا وقبلوا وهذا قسيم الأولين، ﴿ويَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ ويُفْسِدُونَ في الأرْضِ﴾: بالكفر والمعاصي، ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ ولَهم سُوءُ الدّارِ﴾ أي: سوء عاقبة الدنيا وهو جهنم، ﴿اللهُ يَبْسُطُ﴾: يوسع، ﴿الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ ويَقْدِرُ﴾: يضيقه، ﴿وفَرِحُوا﴾ أي: مشركو مكة، ﴿بِالحَياةِ الدُّنْيا﴾: فرح بطر وأشر، ﴿وما الحَياةُ الدُّنْيا في﴾: جنب، ﴿الآخِرَةِ إلّا مَتاعٌ﴾: نزر قليل مثل ما يستمتع به الراكب كتميرات.

(جامع البيان للإيجي — الإيجي (٩٠٥ هـ))

السبت، 19 أكتوبر 2024

من سورة الرعد

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٨_١٨
من سورة الرعد 
﴿ٱللَّهُ یَعۡلَمُ مَا تَحۡمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِیضُ ٱلۡأَرۡحَامُ وَمَا تَزۡدَادُۚ وَكُلُّ شَیۡءٍ عِندَهُۥ بِمِقۡدَارٍ (٨) عَـٰلِمُ ٱلۡغَیۡبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ ٱلۡكَبِیرُ ٱلۡمُتَعَالِ (٩) سَوَاۤءࣱ مِّنكُم مَّنۡ أَسَرَّ ٱلۡقَوۡلَ وَمَن جَهَرَ بِهِۦ وَمَنۡ هُوَ مُسۡتَخۡفِۭ بِٱلَّیۡلِ وَسَارِبُۢ بِٱلنَّهَارِ (١٠) لَهُۥ مُعَقِّبَـٰتࣱ مِّنۢ بَیۡنِ یَدَیۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ یَحۡفَظُونَهُۥ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ وَإِذَاۤ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمࣲ سُوۤءࣰا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ (١١) هُوَ ٱلَّذِی یُرِیكُمُ ٱلۡبَرۡقَ خَوۡفࣰا وَطَمَعࣰا وَیُنشِئُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ (١٢) وَیُسَبِّحُ ٱلرَّعۡدُ بِحَمۡدِهِۦ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ مِنۡ خِیفَتِهِۦ وَیُرۡسِلُ ٱلصَّوَ ٰ⁠عِقَ فَیُصِیبُ بِهَا مَن یَشَاۤءُ وَهُمۡ یُجَـٰدِلُونَ فِی ٱللَّهِ وَهُوَ شَدِیدُ ٱلۡمِحَالِ (١٣) لَهُۥ دَعۡوَةُ ٱلۡحَقِّۚ وَٱلَّذِینَ یَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا یَسۡتَجِیبُونَ لَهُم بِشَیۡءٍ إِلَّا كَبَـٰسِطِ كَفَّیۡهِ إِلَى ٱلۡمَاۤءِ لِیَبۡلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَـٰلِغِهِۦۚ وَمَا دُعَاۤءُ ٱلۡكَـٰفِرِینَ إِلَّا فِی ضَلَـٰلࣲ (١٤) وَلِلَّهِ یَسۡجُدُ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعࣰا وَكَرۡهࣰا وَظِلَـٰلُهُم بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡـَٔاصَالِ ۩ (١٥) قُلۡ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ قُلِ ٱللَّهُۚ قُلۡ أَفَٱتَّخَذۡتُم مِّن دُونِهِۦۤ أَوۡلِیَاۤءَ لَا یَمۡلِكُونَ لِأَنفُسِهِمۡ نَفۡعࣰا وَلَا ضَرࣰّاۚ قُلۡ هَلۡ یَسۡتَوِی ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِیرُ أَمۡ هَلۡ تَسۡتَوِی ٱلظُّلُمَـٰتُ وَٱلنُّورُۗ أَمۡ جَعَلُوا۟ لِلَّهِ شُرَكَاۤءَ خَلَقُوا۟ كَخَلۡقِهِۦ فَتَشَـٰبَهَ ٱلۡخَلۡقُ عَلَیۡهِمۡۚ قُلِ ٱللَّهُ خَـٰلِقُ كُلِّ شَیۡءࣲ وَهُوَ ٱلۡوَ ٰ⁠حِدُ ٱلۡقَهَّـٰرُ (١٦) أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَسَالَتۡ أَوۡدِیَةُۢ بِقَدَرِهَا فَٱحۡتَمَلَ ٱلسَّیۡلُ زَبَدࣰا رَّابِیࣰاۖ وَمِمَّا یُوقِدُونَ عَلَیۡهِ فِی ٱلنَّارِ ٱبۡتِغَاۤءَ حِلۡیَةٍ أَوۡ مَتَـٰعࣲ زَبَدࣱ مِّثۡلُهُۥۚ كَذَ ٰ⁠لِكَ یَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَـٰطِلَۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَیَذۡهَبُ جُفَاۤءࣰۖ وَأَمَّا مَا یَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَیَمۡكُثُ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَ ٰ⁠لِكَ یَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ (١٧) لِلَّذِینَ ٱسۡتَجَابُوا۟ لِرَبِّهِمُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱلَّذِینَ لَمۡ یَسۡتَجِیبُوا۟ لَهُۥ لَوۡ أَنَّ لَهُم مَّا فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعࣰا وَمِثۡلَهُۥ مَعَهُۥ لَٱفۡتَدَوۡا۟ بِهِۦۤۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمۡ سُوۤءُ ٱلۡحِسَابِ وَمَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ (١٨)﴾ [الرعد ٨-١٨]

﴿اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى﴾ من ذكر وأنثى سوى الخلق أو ناقصه، واحد وأكثر ﴿وما تَغِيضُ﴾: تنقص، ﴿الأرْحامُ وما تَزْدادُ﴾: في مدة الحمل أو عدد الولد أو المراد نقصان غذاء الولد وازدياده وهو دم الحيض وغاض وازداد جاءا لازمين ومتعديين، فإن كانا لازمين تعين أن يكون ما مصدرية ﴿وكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ﴾: بقدر معلوم وحد لا يجاوزه، وعنده ظرف للمقدار، ﴿عالِمُ الغَيبِ والشَّهادَةِ﴾، ما غاب عن الخلق وحضر ﴿الكَبِيرُ﴾: العظيم القدر، ﴿المُتَعالِ﴾: المستعلي على كل شيء أو متعال عما لا يليق بكماله ﴿سَواءٌ مِنكم مَن أسَرَّ القَوْلَ ومَن جَهَرَ بِهِ﴾ كما يحيط علمه بعلانيته يحيط بسره ﴿ومَن هو مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ﴾: طالب للخفاء، ﴿وسارِبٌ بِالنَّهارِ﴾: بارز به يراه كل أحد، وهو إما عطف على من أو على مستخف على أن من في معنى الاثنين كأنه قال: سواء منكم اثنان مستخف وسارب، ﴿له﴾ الضمير لمن، أي: لمن أسر وجهر واستخفى وسرب ﴿مُعَقِّباتٌ﴾: ملائكة يعقب بعضهم بعضًا في الليل والنهار ﴿مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ﴾: ملكان من قدامه وورائه ﴿يَحْفَظُونهُ مِن أمْرِ اللهِ﴾: من بأسه وبلائه، أو من أجل أمر الله وبإذنه، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه وعن بعض السلف المعقبات الحرس حول السلطان يحفظونه بزعمهم من أمر الله قيل: مراده بهذا أن حرس الملائكة تشبه حرس هؤلاء لملوكهم ﴿إنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ﴾: من النعمة أو النقمة ﴿حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأنْفُسِهِمْ﴾: من الأحوال الجميلة أو القبيحة وقد ورد ”قال الرب: وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي ما من أهل قرية ولا أهل بيت ولا رجال ببادية كانوا على ما كرهته من معصيتي ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي ما يحبون من رحمتي“ ﴿وإذا أرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ﴾: لا راد له ﴿وما لَهُم مِّن دُونِهِ مِن والٍ﴾: يلي أمرهم فيدفع عنهم السوء ﴿هُوَ الّذِي يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وطَمَعًا﴾ نصبهما بالمفعول له بتقدير إرادة خوف وطمع، أو التأويل بالإخافة والإطماع، وعن بعض السلف الخوف للمسافر والطمع للمقيم ﴿ويُنْشِئُ﴾: يخلق، ﴿السَّحابَ الثِّقالَ﴾: من كثرة الماء، ﴿ويُسَبِّحُ الرَّعْدُ﴾ هو اسم لهذا الصوت أو لملك موكل بالسحاب ﴿بِحَمْدِهِ﴾: متلبسًا بحمده ﴿والمَلائِكَةُ مِن خِيفَتِهِ﴾: من خوف الله تعالى، ﴿ويُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها﴾: فيهلك، ﴿مَن يَشاءُ وهم وهم يُجادِلُونَ في اللهِ﴾ يكذبون آياته ورسله، والواو للحال أو للعطف نزلت في كافر قال: مم ربك؟ من ذهب أو فضة أو لؤلؤ، وهو يجادل إذ أخذته صاعقة فأحرقته ﴿وهُوَ شَدِيدُ المِحالِ﴾: الحول أو القوة أو الأخذ أو المحال المماحلة وهي شدة المماكرة والمكائدة ﴿له﴾: لله ﴿دَعْوَةُ الحَقِّ﴾: دعوة الحق التوحيد، وقيل: معناه العبادة والدعاء الحق لا الباطل، كان له لا لغيره ﴿والَّذِينَ يَدْعُونَ﴾: الأصنام، ﴿مِن دُونِهِ﴾: من دون الله - تعالى، أو المراد من الذين الأصنام، أي: الأصنام الذين يدعونهم من دون الله ﴿لاَ يَسْتَجِيبُونَ﴾ أي: الأصنام ﴿لَهُمْ﴾: لعبادهم، ﴿بِشَيْء إلّا كَباسِطِ﴾: إلا استجابة كاستجابة من بسط ﴿كَفَّيْهِ إلى الماءِ لِيَبْلُغَ﴾: يطلب منه أن يبلغ، ﴿فاهُ وما هو بِبالِغِهِ﴾ لأن الماء جماد لا يشعر بدعائه ولا يقدر أن يصل إلى فيه كالأصنام وعن بعض السلف كمثل الذي يناول الماء من طرف البئر بيده وهو لا يناله أبدا، فكيف يبلغ فاه؟! وعن بعض معناه مثلهم كمثل من بسط كفيه ناشرًا أصابعه والماء لا يبقى في الكف إذا نشرت الأصابع ﴿وما دُعاءُ الكافِرِينَ إلّا في ضَلالٍ﴾: فى ضياع لا منفعة فيه أو ما دعاؤهم ربّهم إلا في ضلال؛ لأن أصواتهم محجوبة عن الله تعالى ﴿ولله يَسْجُدُ﴾: ينقاد ويخضع ﴿مَن في السَّماواتِ﴾: الملائكة، ﴿والأرْضِ﴾: الثقلين ﴿طَوْعًا وكَرْهًا﴾ نصبهما بالمفعول له أو بالحال قيل: المراد من السجدة وضع الجبهة وهو من المؤمنين بالطوع ومن الكفرة وقت الضرورة قيل: اللفظ عام والمراد منه الخصوص ﴿وظِلالُهم بِالغُدُوِّ والآصالِ﴾: في هذين الوقتين يسجد ظلال الكافر والمؤمن بكيفية لا تُعرف، وهل يبعد أن يخلق الله - تعالى - في الظلال عقولًا يسجد لخالقه كما خلق في الجبال وتجلى له والمأوَّلة يأولونها إلى تصريفه إياها بالمد والتقليص فقالوا: تخصيص الوقتين لأن المد والتقليص فيهما أظهر والأظهر أن بالغدو ظرف ليسجد والتخصيص لأنهما أشرف أوقات العبادة أو المراد بهما الدوام ﴿قُلْ مَن رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ قُلِ اللهُ﴾ أجاب عنهم فإنهم مضطرون إلى هذا الجواب ﴿قُلْ أفاتَّخَذْتُمْ مِن دُونِهِ أوْلِياءَ﴾ ألزمهم بأنكم [تتخذون] الأصنام ربّا مع أنكم تُسلِّمون أن الله - تعالى - رب السمماوات والأرض ﴿لا يَمْلِكُونَ لِأنْفُسِهِمْ نَفْعًا ولا ضَرًّا﴾: لا يقدرون على أن ينفعوا أنفسهم ويدفعوا عنها ضرًّا، فكيف يملكون لكم؟! ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمى والبَصِيرُ﴾: فلا يستوي المؤمن والكافر، وقيل المراد: هل يستوى الإله الغافل عنكم والإله المطلع على أحوالكم؟، ﴿أمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ والنُّورُ﴾ فلا يستوي الكفر والإيمان، ﴿أمْ جَعَلُوا لله شُرَكاءَ﴾: بل أجعلوا والهمزة للإنكار، ﴿خَلَقُوا كَخَلْقِهِ﴾ صفة لشركاء، ﴿فَتَشابَهَ الخَلْقُ﴾: خلق الله وخلق الشركاء، ﴿عَلَيْهِمْ﴾ أي: ما اتخذوا شركاء خالقين حتى يتشابه عليهم الأمر، فيقولوا: هؤلاء خالقون كما أن الله - تعالى - خالق فاستحقوا العبادة أيضًا، بل اتخذوا شركاء من أعجز الخلق، ﴿قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾: وحده لا شريك له فلا تشركوا في عبادته غيره، ﴿وهُوَ الواحِدُ﴾: بالألوهية، ﴿القَهّارُ﴾: الغالب، ﴿أنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أوْدِيَةٌ﴾ جمع واد، وهو موضع يسيل فيه الماء، فنسبة السيل مجاز للمبالغة، ﴿بِقَدَرِها﴾ أي: أخذ كل واد بحسبه، فالكبير يسع الكثير، والصغير يسع القليل، قيل: بمقدارها الذي علم الله أنه نافع، ﴿فاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا﴾ أي: الزبد الذي يظهر على وجه الماء من غليانه، ﴿رابِيًا﴾: مرتفعًا على وجه السيل، ﴿ومِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ في النّارِ﴾ أي: جواهر الأرض كالذهب والفضة والنحاس وغير ذلك، ﴿ابْتِغاءَ﴾: طلب، ﴿حِلْيَةٍ أوْ مَتاعٍ﴾: كالأواني وآلات الحرث والحرب، ﴿زَبَدٌ مِثْلُهُ﴾ أي: مما توقدون عليه زبد مثل زبد الماء ومن للابتداء أو للتبعيض، ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الحَقَّ والباطِلَ﴾ أي: مثلهما، فالحق كالماء الذي ينتفع به الناس بقدر وسع أنهارهم وأوديتهم، ويمكث في الأرض وكالجواهر الأرضية المنتفعة بما في صواغ الحلي والأمتعة عنها ويدوم نفعها والباطل كالزبد الذي ليس له نفع ويزول بسرعة وإن علا بعض الأحيان على الماء الصافي وعلى الجواهر حين أذيبت، وعن بعض السلف أراد من الماء القرآن، ومن الأودية القلوب احتملت القلوب منه على قدر يقينها وشكها فأما الشك فلا ينفع معه العمل وأما اليقين فينفع الله به أهله، وقالوا أيضًا: العمل السيئ يضمحل عن أهله كالزبد لا نفع له ولا يبقى وأما من عمل بالحق كان له ويبقى كما يبقى الماء الصافي والجواهر الخالصة، ﴿فَأمّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً﴾ أي: يرمى به السيل منصوب على الحال، ﴿وأمّا ما يَنفَعُ النّاسَ﴾: كالماء الصافي وخلاصة الفلزات، ﴿فَيَمْكُثُ في الأرْضِ﴾ وبه ينتفع الخلق، ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأمْثالَ﴾: للإيضاح والتبيين، ﴿لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ﴾ وهم المؤمنون، ﴿الحُسْنى﴾: المثوبة الحسني وهي الجنة مبتدأ، والذين استجابوا خبره، ﴿والَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ﴾ وهم الكفرة مبتدأ وقوله ﴿لَوْ أنَّ لَهم ما في الأرْضِ جَمِيعًا ومِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ﴾ خبره، أي: لو كان لهم جميع الدنيا ومثله في دار الآخرة لافتدوا به للتخلص من عذابه، قيل: ضرب المثل لبيان الفريقين، فقوله: ”للذين“ متعلق بـ يضرب، والحسني صفة مصدر، أي: استجابوا الاستجابة الحسني، وقوله: ”لو أنّ لهم“ إلخ ... كلام مبتدأ لبيان مآل الفريق الآخر، ﴿أُولَئِكَ لَهم سُوءُ الحِسابِ﴾: المناقشة فيه وعدم غفر شيء من ذنبه، ﴿ومَأْواهُمْ﴾: مرجعهم، ﴿جَهَنَّمُ وبِئْسَ المِهادُ﴾ جهنم، أي: المستقر.

(جامع البيان للإيجي — الإيجي (٩٠٥ هـ))